سعيد غريّب
مع اندلاع الحرب داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، في ظاهرة هي الأولى من نوعها، في المنطقة، منذ خمسين عاماً، وفي ظلّ التساؤلات عن تطوّرها ونتائجها على المنطقة العربيّة ككلّ، وعلى لبنان بصفة خاصة، تعود بي الذاكرة إلى واقعة معبّرة، خصّني بها مؤسس فوج المغاوير في الجيش اللبناني، اللواء المرحوم محمود طي أبو ضرغم، قبل سبعة وعشرين عاماً من اليوم. فروى لي أنّه ليلة سقوط بلدة الدامور الشوفية، في بداية العام 1976 وكانت حرب السنتين في أوجها، سهر الرئيس كميل شمعون والضابط أبو ضرغم المولج أمن الرئيس، على ضوء الشموع، في ما كان يعرف بقصر السعديات، ينتظران بزوغ الفجر للانتقال بالطوّافة إلى مدينة جونيه، بكسروان.
في تلك الليلة دار حديث رؤيوي بين الرجلين، وقد بدأه أبو ضرغم بسؤال للرجل- الزعيم، الذي كتب بحياته صفحات من تاريخ لبنان: «ما الذي تتوقع حدوثه يا فخامة الرئيس؟ البلاد في انقسام وكلّ يتبع قطيعه؟ شو يلّي ناطرنا وماذا نفعل؟»، فأجابه الرئيس شمعون: «محمود، خلّي عينك على العراق». تعجّب أبو ضرغم وقال: «فخامة الرئيس أنا اسألك عن لبنان»، فردّ عليه الرئيس شمعون: «بعد ما خرفت يا محمود، سمعتك جيّداً، وأجبتك. ما سيحصل للعراق سيحصل لدول المنطقة، ولبنان آخرها».
وحين تساءل أبو ضرغم عن خلفيّة هذه المقولة، إذ قال فخامة الرئيس: «العراق بألف خير، ولبنان منقسم، والنيران تأكل الأخضر واليابس. معقول رايحين عالتقسيم؟ لا التقسيم لن يحصل وإن حصل فسيبدأ من العراق، ويمرّ بدول المنطقة تباعاً وصولاً إلى لبنان، ردّ شمعون. ولما سأله ابو ضرغم: كيف؟ أجاب أنّ التقسيم سيكون على الخريطة من فوق إلى تحت وليس العكس. هذه الرواية عمرها سبعة وأربعون عاماً وحينها كان الرئيس شمعون في السادسة والسبعين من عمره.
واليوم، هل بدأت رؤية كميل شمعون تتحقّق؟ وهل نحن أمام تحولات جذرية للدول وجغرافيتها، ولا سيما في ظلّ التطور غير المسبوق في التواصل وصناعة الأسلحة ودور الذكاء الاصطناعي؟ الواقع أنّ العالم اليوم يمرّ في أخطر مراحله، منذ الحرب العالمية الثانية، حيث تتداخل العوامل التفجيريّة، وتتغيّر خرائط النفوذ العالمية، ولا سيما مع انبثاق قوى ناشئة وفاعلة. وعلى الرغم من تفادي الانفجار الكبير والتدميري النووي، نرى العالم اليوم في صراع حاد. هو في طور الانقسام والتضعضع من روسيا وأوكرانيا إلى الصين وكوريا وآذربيجان وأرمينيا، من تركيا والاكراد، إلى ليبيا وتونس والسودان، إلى ايران والعراق وسوريا ولبنان وغزة، إلى افريقيا وثرواتها، من الدور الجديد للهند إلى حروب الهجرة في أوروبا وسائر الغرب.
كلّ مواقع التوتر تدعونا إلى مراقبتها، فالعالم يصغر وتوتّراته تكبر. ولعل ما ينتظرنا في المراحل اللاحقة هو التسويات الكبرى التي ستتوالى تباعاً، اذ يبدو أنّ ما يحضّر للعالم، منذ نصف قرن، قد آن أوانه على وقع النيران، خصوصاً أنّ التاريخ يكتب على نار حامية، وأنّ الاتفاقات الكبرى تولد من الحروب. حتى الآن، أسفر النزاع عن سيطرة سياسية شبه كاملة لايران على أربع عواصم عربية، أضيفت إليها بصورة عمليّة، في السابع من تشرين الأول الجاري الأراضي الفلسطينية المحتلة في غزة. فهل سيبدأ من هذا النزاع نزاع آخر تكون نهايته غير محسوبة؟ وماذا ستفعل المملكة العربية السعودية ودول الخليج؟ وهل سيبقى الخليج عربياً أم تكرّسه إيران فارسياً؟
إنّ الأسابيع والشهور المقبلة ستكون مفصلية ومصيرية في الفرز والجغرافيا، ليكون للفلسطينيين دولة. إنّ الوقت وقت مفاجآت، والانقسامات دخلت في الصراع الخطير والمصيري للجميع. والتوجّه نحو حرب شرسة لم يأت من عبث، والوضع على هذا المستوى لم يتحرك فجأة. فالمسألة متشابكة وكل من الولايات المتحدة وايران في قالبها، والمصالح تتقاطع مع روسيا التي تهتزّ أراضيها بفعل العمليات العسكريّة.
ويجمع الخبراء السياسيون والعسكريون على أنّ العنف سيجرّ العنف، وأنّ التطوّرات لا تزال تتفاعل بما لا يسمح بالتخمينات أو التوقعات. أمّا عن توجّه حاملة الطائرات جيرالد فورد إلى سواحل المنطقة، فلا بدّ أنّه ذكّر اللبنانيين بمآثر المدمّرة نيو جرسي، التي أسمعتنا صوتها ذات يوم من العام 1983، قبالة الساحل اللبناني.
***
*نداء الوطن 12-10-2023