سعيد غريّب
أينما نظرنا وكيفما فكّرنا، يبدو لنا انه لم يعد لدينا ما نخسره! كلّ شيء يسقط أمام عيون البشرية جمعاء، فيما العالم يتدهور بسرعة قياسية، ويبدو كأنه يدخل في مرحلة الكبار العاجزين والصغار العاجزين. الصغار يتفرّجون مسحوقين، يكادون لا يصدّقون أنّ الكبار مرضى إلى هذا الحد، وأنّ «النماذج المثالية» لم تعد نماذج صالحة، وأنّ عليهم هم أن يكونوا نماذج لأنفسهم وأطباء أمراضهم.
ومن خلال التطورات التي تشهدها البشرية في نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، يبدو لنا أنّ الكون يعيد استنساخ نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر وامتداد عصر الانحطاط، وما حمل معه من تدهور في العلوم والآداب والفنون وسائر المعطيات الفكريّة التي تعيش مأساة مريرة. فالجهل يخيّم على الآفاق والخمول آخذ بجمهور الناس. والفكر بدائي قاصر وضيّق الأفق لافتقاده إلى مناخ ملائم لينمو فيه. والعلم يكتفي بأن يركّز على التكنولوجيا وتطويرها، ليضعها بين أيادي مئات الملايين من البشر، فيلهيهم بها بعيداً عن أي نوع من أنواع العلوم الانسانية ومن التطور الفكري الانساني.
هذه صورة العالم الواسع، فكم بالحري إذا عدنا إلى ضيق العيش وتكبيل الفكر في بلد أسّس، في يوم من الأيام، لعصر نهضة غرف منه أباؤنا والأجداد، ولا يزال جيلنا يعيش في ذكراه ويحاول منهوكاً أن يحتفظ بذاكرته. إنّ أمراض الكبار في العالم كبيرة وهي تنفجر الآن بشكل لا يعرف لا الحكام ولا المعارضون كيف يعالجونها بغير المسكّنات. والخبراء أيضاً لا يعرفون! أمّا أمراض الصغار، ونحن من عالمهم، فهي على قدرهم، لكنها تتخطى في مفاعيلها حياتهم أكثر من أمراض الكبار. وفيما أمراض لبنان هي هي، واللائحة تراوح بين الفساد والصفقات والسرقات والارتهان للزعيم وصولاً إلى الأكاذيب المنشورة والخطابات الخدّاعة والتلاعب في المواقف، حيث تزدهر الازدواجيّة لتظهير كلّ أمر مقبول على أنّه مرفوض ولكنه مفروض بالقوة، ولا يستمرّ القبول به الا بالقوة. أما حصادها فظلم وظلام وتراجع في كل المعايير، من مفهوم الدولة ودورها وخدماتها إلى مفهوم المواطنة وحقوق المواطنين وواجباتهم، وصولاً إلى الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. ولعلّ أبرز ظواهر التراجع يكمن في إهمال الاستحقاقات الدستورية وما يستتبعها من انهيارات بنيوية خطيرة.
فمنذ شغور الموقع الأول في لبنان، للمرة الثالثة منذ خمسة وثلاثين عاماً، تسارعت التطورات وأصبحت المخاطر تعدّ بالساعات بعدما كانت تعدّ بالايام والشهور. لقد تحوّل الشغور في الرئاسة إلى فراغ شبه كامل. وباتت الجمهورية في حاجة إلى جرعات شبه يوميّة ولو وهميّة من هذه الجهة الدولة أو تلك، فيما يثقل عبء النزوح كاهل اللبنانيين جميعاً. وواقع الحال أنّ الجهات الدولية أصبح هاجسها إبعاد كأس النزوح عن أوروبا والعمل على تثبيت هذا النزوح حيث هو. إنّ أكثر من ثلث سكان الجغرافيا اللبنانية الضيقة أصبح من غير اللبنانيين، واللبنانيون محتارون في أمرهم ولا حول لهم ولا قوة سوى الصراخ، وقياداتهم لا همّ لها سوى البقاء حيث هي.
إنّ العالم المتآمر لا يمزح ولا يرحم، ولا ينظر إلى اللبناني كمسيحي أو مسلم، كسنيّ أو شيعي أو درزي. وعلى اللبنانيين أن يثبتوا بعد اليوم أهليّتهم كدولة لا كأفراد فحسب، وأنّ الاعتماد على الوقت لم يعد ينفع بعد الآن. لماذا يخاف المسؤولون اللبنانيون ولا سيما الكبار من موضوع النزوح؟ والحلّ إمّا بإعادة النازحين عبر الحدود إلى بلدهم وأرضهم، وإمّا بفتح منافذ البحر أمام الراغبين منهم بالتوجه نحو أوروبا. فلبنان لم يعد لديه ما يخسره سواء غضب المجتمع الدولي أو لم يغضب.
صحيح أنّ اللبنانيين اعتادوا منذ عقود على المساعدات، واعتادوا على الاصطفافات الداخلية والخارجية، ووقفوا إلى جانب «الاقوياء» ورهنوا أنفسهم للزعيم، خاضعين لمنطق الخوف والتخويف، والأجيال الصاعدة حرمت التعرّف على الدولة ومفهوم الدولة. الّا أنّ الصحيح أيضاً أنّ شغف الناس الجديد بالدولة يحتّم وجود الشرعية والتجانس، أي وحدة الصف، عندها يصبح الحكم أكثر قوة من جميع القوى المتصارعة، وتالياً ينشأ شعور عام لدى المواطن بوحدة وطنية لا يمكن أن تتعرّض للخطر من جانب أيّ قوة اخرى. ليس أفضل من ترتيب البيت الداخلي على يد أهل البيت الداخلي بقيادة مؤمنين بالدولة ومؤسساتها.
***
*نداء الوطن 27-9-2023