(وسَأَلَت، في دَلالٍ وَدَلَعٍ: كَيفَ تَكتُبُ وتُتْقِنُ الشِّعرَ، وأَنتَ آتٍ مِن عالَمِ الرَّقمِ والرِّياضِيَّات؟! فَكانَتِ القَصِيدَةُ)
وتَسأَلُ بَعدَ أَن هَجَرَت دُرُوبِي شُمُوسٌ في انحِدارٍ لِلغُرُوبِ
أَهذا الشِّعرُ تَكتُبُ في حَبِيبٍ، مَرِيرِ النَّأيِ، مِغناجٍ لَعُوبِ؟!
أَتَكتُبُهُ مَعَ الأَفراحِ تَزهُو؟! أَتَكتُبُهُ مَعَ القَلبِ الكَئِيبِ؟!
أَتَكتُبُهُ وأَنتَ على القَوافِي دَخِيلٌ في العَرِينِ، وكَالغَرِيبِ؟!
أَراكَ مَعَ القَرِيضِ تَعِيشُ أَهْلًا قَرِيبًا، بَل وأَقرَبَ مِن قَرِيبِ
وأَنتَ أَلِيفُ رَقْمٍ لا يُبالِي بِشِعْرٍ كَالطِّلاوَةِ(2) والطُّيُوبِ
وأَنتَ هُنا بِآياتٍ لِطافٍ، كَرَجْعِ الشَّدْوِ في مَرْجٍ خَصِيبِ
نَزَلتَ بِهِ كَما في الصُّبْحِ يَهمِي النَّدَى، سَمْحَ الوُقُوعِ على الحَطِيبِ(3)
ومِلْتَ إِلى بَوادِيهِ فَمارَت(4) حُبَيباتُ الرِّمالِ على الكَثِيبِ(5)
فَكُنتَ مع العِطاشِ إِلى القَوافِي مَثِيلَ الماءِ في قَفْرٍ جَدِيبِ
أَلَا يا رَبَّة الإِلهامِ مَهْلًا، دَعانِي الحَرْفُ لِلرُّكْنِ الرَّحِيبِ
تُدَغدِغُنِي القَوافِي في دَلالٍ، فَبِي مِنها الخُمارُ على دَبِيبِ(1)
أَنا يا أَختَ أَحلامِي أُوَشِّي رَهِيفَ البَدْعِ عَفَّ عَنِ العُيُوبِ
وأُلبِسُهُ مِنَ الأَلوانِ حَتَّى تَخالَّ الصُّبْحَ في البُرْدِ القَشِيبِ
أَنا تَسرِي القَصائِدُ في عُرُوقِي، مع النَّبَضاتِ، في نَغَمٍ عَجِيبِ
مع النَّهَداتِ تَحمِلُ سِرَّ جُرْحٍ، كَلَسْعِ الجَمْرِ، مِن ذِكرَى الحَبِيبِ
مع الدَّنِّ(6) العُتِيقِ، وكُلِّ كَأسٍ تُداعِبُها المَراشِفُ في المَغِيبِ
مع الأَحلامِ تُزهِرُ في اللَّيالِي، مع الأَشواقِ تَحمِلُ كُلَّ طِيْبِ
مع الدَّفَقاتِ تَشدُو في الحَنايا، وتَزرَعُ بَيلَسانًا في دُرُوبِي
مع الأَوجاعِ تَنخُرُ في عِظامِي، مع الآهاتِ، والعَرَقِ الصَّبِيبِ
أَنا أَحيا القَوافِي في هُيامٍ يَبُثُّ الدِّفْءَ في الغَمِّ العَصِيبِ
أَعِيشُ بِها، وتَحيا في مَسامِي لَهِيبًا يَستَطِيرُ مع اللَّهِيبِ
وأَكتُبُها القَصائِدَ يَومَ تَأتِي إِلَيَّ على الجَناحِ المُستَجِيبِ
يُناغِينِي الحَنِينُ إِلى لِقاءٍ، تَذُوبُ به الشِّفاهُ مع القُلُوبِ
وأَكتُبُها إِذا ضاقَت طَوايا ــــــــــ الفُؤَادِ بِكُلِّ خَنَّاسٍ مُرِيبِ
وأَكتُبُها وقد عَصَفَت بِصَدرِي رِياحٌ لا تَكِلُّ عن الهُبُوبِ
وتَكتُبُنِي إِذا حُمَّ التَّلاقِي مع العَينَينِ، والقَدِّ الرَّطِيبِ
قَوافِيَ تَختَبِي الأَحلامُ فِيها، تَكُرُّ عَلَيَّ كَرَّ العَندَلِيبِ
تَهُلُّ على الجَنانِ مع العَشايا، رَحِيقًا جالَ في قَلبٍ سَلِيبِ
لَكَم زَرَعَت بِأَيَّامِي وُرُودًا، لِتُزهِرَ ذِي الوُرُودُ على شُحُوبِي
تُسِرُّ مع النَّسائِمِ لِلرَّوابِي خَفايا القَلبِ في أَحلَى نَسِيبِ(7)
وكَم سَكِرَت كُرُومٌ في بِلادِي على الأَنغامِ مِن شِعرِي العَذُوبِ(8)
تُرَدِّدُهُ الشِّفاهُ على الرَّوابِي، على الأَزهارِ في المَرجِ الخَضِيبِ(9)
يُسامِرُها الدَّوالِي وَهْيِ نَشْوَى مع السُّمَّارِ في الجَمْعِ الطَّرُوبِ
تَشَهَّاها فَناجاها شَغُوفًا، أَلَا يا شُقْرَةَ الأَعنابِ طِيْبِي
فَيَسكُرُ خَضْبُها(10) الوَلهانُ شَوْقًا بِوَعْدِ القَطْفِ واللَّونِ الذَّهِيبِ(11)
لَأَنتِ الوَحْيُ يَومَ يَهِيجُ نَبْضٌ، وأَنتِ بِهِ البَراعِمُ في القَضِيبِ
فَصُبِّي الخَمرَ في كُوبِي وغَنِّي ــــــــــ الهَوَى والشِّعرَ، وامتَزِجِي بِكُوبِي
فَفَجرُ العِشِقِ ماضٍ في التَّلاشِي، يَكادُ يَذُوبُ في اللَّيلِ الرَّتِيبِ
لقد أَضحَت لَيالِينا سُهادًا، وباتَ يَدُقُّ ناقُوسُ المَشِيبِ
فَكَم نادَيتُ واخضَرَّت قَوافٍ، عَيِيتُ عن النِّداءِ ولم تُجِيبِي
لقد سُمِّرْتُ في عَينَيكِ عُمرًا، أَما حانَ النُّزُولِ عن الصَّلِيبِ؟!
***
(1): الخُمَار: ما خالَطَ الإِنسانَ مِن سُكْرِ الخَمْر
(2): الطِّلاوَةُ: الحُسْنُ والرَّوْنَق
(3): حَطِيب: مَكانٌ يَكثُرُ فِيهِ ما جَفَّ مِن زَرْعٍ أَو شَجَر، أَي كَثُرَ حَطَبُه
(4): مارَ الشَّيءُ: تَحَرَّكَ وتَدافَع
(5): كَثِيب: تَلٌّ أَو مُرتَفَعٌ مِنَ الرِّمال
(6): الدَّنّ: وِعاءٌ ضَخْمٌ لِلخَمِر
(7): النَّسِيبُ (في الشِّعْر): الشِّعْرُ الغَزَلِيُّ، شِعْرُ الحُبِّ، الرَّقِيقُ مِنهُ المُتَغَزَّل بِهِ في النِّساء
(8): عَذُوب: الَّذِي لَيسَ بَينَهُ وبَينَ السَّماءِ سِتْر
(9): خَضِيْب: مُخْضَرّ
(10): الخَضْبُ: خُضْرَةُ الشَّجَرِ عِندَ ابتِداءِ الإِيراق / الجَدِيدُ مِنَ النَّباتِ يُمطَرُ فَيَخضَرُّ
(11): ذَهِيب: مُمَوَّهٌ بِالذَّهَب