سعيد غريّب
لم تكفِنا همروجة باربي، ولم تنتهِ قضية المثليين الصاعدة، ولم تمحُ عاصفة عمرو دياب الفنية انشغالنا بـ»فلاشة» رياض سلامة، اللاجئ إلى منطق شمشون الجبار الذي أتيت عليه منذ مدة. وها إننا نغرق بأخبار الجرائم الغريبة الأسباب والمدهشة الدوافع التي باتت تطالعنا يومياً، حاملة اليأس والبؤس والاشمئزاز إلى نفوسنا. هما الجدّ والخال يغتصبان طفلة، وأمّها وجدّتها تتستّران على الجريمة ومرتكبيها، هي الحاضنة التي تعنّف أطفال الشهور القليلة في دار الحضانة ورفيقتها التي تلتزم حبل الصمت وتكتفي أن تصوّر لأشهر. هو شقيق العريس يقتل شقيق العروسة لأتفه الأسباب خلال العرس. وما خوفنا إلّا أن يكون الآتي أعظم. ولنعد في تحليلاتنا إلى الأساس، أي أساس المرض المتمثل بانحلال الأخلاق بالتزامن مع انحلال مقوّمات الدولة اللبنانية ومؤسساتها.
إنّ الأمر الواضح والأكيد في كل ما يجري، منذ ما اعتبر انتهاء الحرب في لبنان وعليه، هو التداعيات الخطيرة التي خلّفتها الحرب. فلم يعد لبنان هو لبنان الذي عرفه آباؤنا وأجدادنا، إلى درجة أنّ شعبه بدأ يخسر حسّه الإنساني، مع تراكم السنين. ولم تعد تعني له جريمة ترتكب في وضح النهار، ويشاهدها شهودها وكأنها مشهد سينمائي صالح للفرجة. إنّ الأمر الواضح المتمّم لما سبق في كل ما جرى بعد انتهاء الحرب هو التحلّل المنهجي الذي يعرّي مفهوم القيم الإنسانية ويكشف غابة من الحيوانات الناطقة.
إنّ ما خلّفته الحرب أخطر بكثير ممّا أوقعته من خسائر بشرية ومادية. صحيح أنّ الجريمة ولدت مع ولادة الإنسان وجريمة الأخوين «قايين وهابيل» ولكن ما يحصل في لبنان هو نتيجة تراكمات مزّقت النفوس والعقول والقلوب، ومحت كل ما هو جميل من القاموس. عسكرت الأطراف المتقاتلة تحت أجنحتها مجتمعاً بأسره وأغرقته في منطق الحرب والانقسام الداخلي، حتى تسلّل الغضب والعنف والحقد إلى دمه حتى الثمالة إلى يومنا هذا.
«خربوا البلد» عبارة ردّدها أمامي العميد ريمون إدة في باريس حين كنت أزوره في العاصمة الفرنسية. رجل المبادئ من الدرجة الأولى مع الحليف ضد العدو ومع المبادئ ضد الحليف، وصف لي، من الثمانينات، المخاطر المحدقة بلبنان، من الداخل والخارج على حد سواء. يومها لم تكن مسائل الفساد على أوجها، والحق يقال إنّ العميد أغنى زمنه بالنزاهة والنظافة والديموقراطية الصحيحة والشجاعة والنقد القاسي بالأحكام الصائبة حتى أنّه كان الوحيد بين زملائه الذي لم يتقدّم من دوائر المجلس النيابي بفواتير الاستشفاء لاستعادة ما أنفقه.
أمّا اليوم فالمأزق عميق وتجلّياته موجعة على كل الأصعدة من السياسة إلى الأمن والاقتصاد والمجتمع. والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه بقوة اليوم، أكثر من أي يوم مضى هو كيف السبيل إلى الخروج من هذه الدوّامة وهذا الفلتان وهذه الرواية السيئة لبلد الأرز؟
لا مخرج في الأفق، خصوصاً أنّ المتحكّمين بالبلد يلعبون به، غير آبهين حتى بمصير أولادهم وأخلاق أحفادهم. لا مخرج في الأفق، لأنّ المتسلّطين على البلد هم الكارثة الكبرى، هم المتسبّبون دائماً في تجدّد الكارثة. لا مخرج في الأفق، لأنّ وقف إطلاق النار بين المتحكّمين وتسوية اقتتالهم أمر بالغ الصعوبة. وإذا تحقّقت أعجوبة يصبحون عاطلين عن العمل. لا مخرج في الأفق إلّا بثورة مدنية عابرة للطوائف، فاستمرار لبنان وإنقاذه من المحنة باتا اليوم أهم من أي شيء آخر وأكبر من أي اختلاف أو خلاف أو اقتتال، فوق كل الأشخاص والشخصيات، وإلا سيأتي مخرج من باب آخر، من فضلات اتفاق نووي أو تقارب إقليمي سعودي إيراني، وفي أحسن الأحوال ليس من «قشوته».
والسؤال الأهم بعد كلّ ما تقدّم: هل أنّ بلداً كلبنان تنخره الطائفية وتتعزّز فيه المذهبية قادر على اعتماد قوانين ديموقراطية معاصرة ومتطوّرة؟ ما من قانون يمكن أن يعيد الحق إلى المواطن طالما هو خاضع وخامل وبلا وطنية. ما من قانون يستطيع أن يخرق الخضوع والخمول أو ينسفهما حتى لو حمل معه أهم الأسماء وأنظفها وطالما حرية الاختيار غير مقرونة بحسن الاختيار الذي يتطلّب وعياً وسعة اطّلاع.
نعيش في بلد غارق في انعدام القيم والتأقلم معها ونسهر أمام شاشات يجب تطهيرها كل يوم بالمبيدات وننتظر محلّلين يشرحون لنا سرّ الوجود. صحيح أننا جيل قليل الحظ وعبء كبير على فلاسفة الجهل يريدون التخلص منه، لكن الأكيد أيضاً أنّ عصور النهضة كانت تبدأ عبر التاريخ من حيث انتهت عصور الانحطاط.
***
*نداء الوطن 23 آب 2023