سعيد غريّب
في زمن الانهيار الأفقي الشامل وتفكّك مقوّمات الصمود الاقتصادي والتربوي والانساني، وفي ظلّ تدمير ممنهج للمؤسسات، لم يشقّ واقعنا الضبابي، القائم على تعايش استسلامي للمواطن العادي معه، سوى مظاهر الأمن الهشّ والمهتز، هنا وهناك، وأحداث العنف الاجرامية التي يتوق ضحاياها الأبرياء إلى الحساب.
بلدنا اليوم بلا حدود، ساحة مفتوحة لكل اللاعبين. الأصدقاء والأعداء والأعدقاء، جميعهم يشكّلون هذه الصورة التي يختلط فيها الحابل بالنابل، حتى صح فينا القول «ضاعت الطاسة». والتعبير هذا يعود إلى عهد الامير بشير الثاني الشهابي لوصف ما يحصل، حين تنعدم المقاييس وتضيع المعايير. فالأمير الذي وحّد المكاييل بوضعه نظام الصاع، أي «الطاسة»، لمراقبة التجار والغشّ في التجارة، قدّم الطاسة نموذجاً ذا حجم ومقاس محدّدين، كمرجع متّفق عليه يجدر بالجميع الالتزام به لردم الخلافات. لكن الرواية المتناقلة تقول إنّ الطاسة، التي أودعت في مقر الامارة، ضاعت بمجرد أن حصل خلاف! وهذه حالنا، لا يخرق ثباتنا في المرحلة الضائعة سوى سعي إلى مزيد من الضياع عن جوهر أزمتنا وواقعنا! في وقت ينتظر المواطن اللبناني العادي، من دون جدوى، انجاز الاستحقاق الرئاسي مدخلاً إلى انتظام المؤسسات وعودة الحياة الدستورية الطبيعية إلى مجراها، وفيما يتطلّع إلى وصول رئيس يكون أكبر من القصر، قوياً بوطنيته وبنزاهته واحترامه المؤسسات، تدور أحجار الرّحى على فراغ بلا طحين. ويبقى لبنان رهن انتظارات لقاءات الدول والسفارات والاتفاقات حيث كانت رسالة الاسئلة الفرنسية إلى النواب آخر ابداعاتها، مداراة لما قد يجسده قول الشاعر «ويُقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود».
هو وقت ضائع يعبر. يحمل اللبنانيون أعباءه من دون أفق واضح حتى الآن لا سياسياً ولا اقتصادياً، ويلعب فيه السياسيون أدوارهم المعلّبة حتى يقضي الأمر. فهل هذا الأمر هو الزوال النهائي للدولة التي ظلّلت لبنان منذ أكثر من مئة عام؟ وفي هذه الحال هل يمكن أن تكون المطالبة بالدولة وما تحمله من مفاهيم عليا تهمة؟ وهل الأمر هو تفريغ لبنان من مكوّنه اللبناني انفاذاً لمؤامرات خارجية؟ ويصح عندها السؤال: اذا فرغ لبنان من أحد مكوناته هل يستطيع البقاء كما يشتهي أبناؤه، أي جميع أبنائه؟
بلدنا المتسول، الذي كان منارة قبل أن يغزوه فلاسفة الجهل، لم يتجرّع في حياته كأساً فيه هذه الكمية من المرارة! ولم يدرك شعبه بل جزء كبير منه أنّه حطب لحروب تنتهي بجلسات ضحك وولائم، في حدائق زعماء الحطب. لعل هؤلاء لم يقرأوا ما حذر منه المهاتما غاندي وهي أمور سبعة: السياسة بلا مبادئ، المتعة بلا ضمير، الثروة بلا عمل، المعرفة بلا قيم، التجارة بلا أخلاق، العلم بلا انسانية، العبادة بلا تضحية.
ووسط هذا الفشل المريع في لملمة الوطن، نجد جميعنا وقتاً لنضيع في «باربي» وايحاءاتها. هل الفيلم فعلاً يضرب المثل العليا الشامخة لبلادنا، أم أنّه دعوة لتفكير وجودي ينجح فيه الساعون إلى أجوبة في الانسانية والثقافة؟ أم أنّه تمهيد لضرب مجتمعنا المصاب أصلاً بالسكيزوفرانيا بين الدين والدولة، وبين الوطن والمذاهب، وبين الفكر الجديد والالتزام بالتقاليد من خلال طرح مفاهيم خلافية اضافية علينا؟
«كل شيء ممنوع مرغوب فيه»، عبارة عرفها الانسان منذ القدم وهي موضوع جديد يتلهى به اللبنانيون وعنوانه «باربي» فيلم يهتم به اللبنانيون أكثر من كل شعوب الأرض، فقط لأنّ السلطة الذكية الباحثة عن قضية مثيرة جديدة منحته كل هذا الاهتمام، مدعومة بإعلام أذكى يبحث عن فتات يقتات منه.
إختلقت هذه القضية بهدف توليدها قضية اخرى فثالثة، وهكذا حتى يضيع الجميع وينسى القضية الأم. صغرت قضية لبنان لتصبح بحجم باربي وكبرت إلى درجة النقاش القانوني على مجتمع الميم. مسكين لبنان، شعبه يهاجر وحكامه باقون، شعبه ينزف وحكامه متخمون، ليس له الحق في أن يدافع عن نفسه، ولا الأمن له الحق في أن يدافع عن الشعب. مسكينة باربي «مش فهمانة شي من شي» يحاربها حكام لأنّ لا شيء آخر يتقنونه لا في أعمالهم ولا خلف مكاتبهم والمحزن أن الناس تتعلق بهم ولا تدري أنّ العبقري من بينهم لا يمكن اتهامه ولا «بضرب ذكاء».