“سياسة الدولة العثمانية في مصر (1801-1805)”

 

 

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب سياسة الدولة العثمانية في مصر (1801-1805) في ضوء “دفتر مُهمة مصر” الرقم 11، وهو من تأليف محمد عبد العاطي. يقع الكتاب في 216 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا

إنّ الوثائق مصدر من أهم مصادر كتابة التاريخ، وقد اهتمت الدولة العثمانية بحفظ تراثها اهتمامًا بالغًا منذ بدايات القرن التاسع عشر، فنسخته في وثائق، ووضعت التشريعات لحمايتها، معتبرة إياها ثروة قومية، وشكّلت الهيئات المتخصصة لتصنيفها ونشر المهم منها وإتاحتها للباحثين، وتشجيع الأفراد والمؤسسات على تحقيقها وإخراجها لجمهور القراء. والسلطنة العثمانية دولة عظمى بلغ سلطانها أقاليم الدنيا السبعة، وخلّفت على طول هذه المساحة الجغرافية الشاسعة ثروة وثائقية عظيمة تُعَد مادة أرشيفية من أهم مصادر كتابة تاريخ العالم عمومًا، وتاريخ منطقتنا العربية خصوصًا، وهي بالنسبة إلى المهتمين بالتأريخ لمصر في العصر العثماني درّة التاج، وتحتل موقعًا مميزًا بين الوثائق العالمية الأخرى ذات الصلة، ومن أهم هذه الوثائق “دفاتر المُهمة”، ومن أهم “دفاتر المهمة” بالنسبة إلى هؤلاء الباحثين “دفاتر مُهمة مصر”، التي يشكّل أحدُها، وهو “دفتر مُهمة مصر” الرقم 11، مادةَ هذا الكتاب.

يتضمن الكتاب نظرة جديدة إلى تاريخ مصر في مطلع القرن التاسع عشر، وفقًا لمعطيات مستمدة من وثائق لم تُنشر أو تُدرس من قبل، واستشفافًا من المؤلف لرؤية عثمانية لم تُطرح لدى سابقيه؛ وهو كتاب مفيد للباحثين والقراء المهتمين بالأحكام العثمانية، الخاصة بولايات مصر والحجاز واليمن، التي احتلت مساحة كبيرة في دفاتر الديوان الهمايوني عمومًا ودفاتر المهمة خصوصًا؛ بسبب اهتمام الحكم السلطاني الكبير بشؤونها وتسجيله كل ما يخصها من أحكام في هذه الدفاتر حتى أواسط القرن 11هـ/ 17م، لتختفي بعد تلك الحقبة الأحكام الخاصة بمصر من دفاتر المهمة بالتدريج ويتم العثور بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين على سلسلة من دفاتر المهمة المستقلة التي تتعلق بأحكام ولاية مصر وحدها، والتي بلغ عددها خمسة عشر دفترًا وأُطلق عليها في ما بعد “دفاتر مُهمة مصر”؛ ما يُشير إلى زيادة الاهتمام بمصر وشؤونها وعلاقتها بمركز الدولة.

وقد ركزت الأحكام الواردة في دفاتر مُهمة مصر على موضوعات توطيد الحكم العثماني في أنحاء البلاد، والتصدي للقوى المناوئة، المحلية أو الدولية، والتدابير اللازمة لاستتباب الأمن في مصر والحجاز، وتأمين خزينة الإرسالية في موعدها كل عام بلا نقصان، ورعاية شؤون الحرمين. وقد تناول “’دفتر مُهمة مصر‘ الرقم 11” موضوعات كثيرة لم تخرج عن هذا الإطار؛ منها أحداث مصر في الفترة التي أعقبت خروج الفرنسيين منها (1801)، والصراع بين القوى المختلفة لملء الفراغ، ومحاولة الدولة العثمانية استعادة نفوذها القديم، وهو ما تعلقت به غالبية أحكام الدفتر، عبر سياستها تجاه الأمراء المماليك الذين سعوا مدعومين من الإنكليز لاستعادة نفوذهم بعد خروج الفرنسيين، ودعم العثمانيين ولاة مصر بالقوى العسكرية للقضاء على المماليك وطردهم، ومنع دخول الجنود غير النظاميين إلى مصر وتخصيص أماكن ملائمة لإقامتهم، وإخراج الموجودين منهم بعد دفع مستحقاتهم المالية.

ومن موضوعات دفتر مُهمة مصر الرقم 11، أيضًا، دور مصر الاقتصادي تجاه إسطنبول، والعلاقات الاقتصادية بينهما، ودورها في رعاية الحرمين إداريًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، والتصدي للحركة الوهابية.

تكتسب دفاتر المهمة أهميتها في أنها صادرة عن الديوان الهمايوني، المركز الأعلى في اتخاذ القرارات داخل السلطنة بعد السلطان، برئاسة وكيل السلطان المطلق الصدر الأعظم، لمناقشة أهم قضايا الدولة التي كانت تُقيّد في دفاتر وفقًا لموضوعها. وكان في الديوان الهمايوني أقلامٌ، في مقدمتها قلم البكلكجي، ومهمته نسخ الأوامر والأحكام الصادرة في دفاتر خاصة أُطلق عليها “دفاتر مهمة”، وضمّت في مجملها وقائع تمتدّ في الزمن من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين، وقد وُجد منها في أرشيف رئاسة الوزراء في إسطنبول – وفقًا للتصنيف الصادر في عام 2017 – 424 دفترًا، فيها نصوص متناثرة عن تاريخ مصر في الفترة 1553-1707. أما دفاتر مُهمة مصر الخمسة عشر، فهي تتناول حصرًا تاريخ مصر العثمانية بعد هذا التاريخ (1707-1915)، فقد تناول الكتابُ بالتفصيل منها دفترَ مُهمة مصر الرقم 11.

يتضمن الكتاب قسمين رئيسين: قسم الدراسة، وفيه ثلاثة فصول؛ وقسم الترجمة.

تناول الفصل الأول من الكتاب صراعات مراكز القوى في مصر، متمثلة بالمماليك وعساكر الأرناؤوط والباشي بوزوق والولاة العثمانيين. وقد تمكّن محمد على باشا، في النهاية، من حسم الوضع لمصلحته وإجبار الباب العالي على قبوله واليًا على مصر. وكان كل فريق من المتصارعين يسعى لبسط نفوذه؛ فالمماليك أرادوا استعادة سلطتهم التي كانت لهم قبل الحملة الفرنسية، واتصلوا بالإنكليز والفرنسيين لتحقيق ذلك، والإنكليز أرادوا المماطلة أطول وقت ممكن في الخروج من مصر، وحتى لا تسقط في أيدي الفرنسيين من ناحية أخرى. أما العثمانيون الذين بذلوا أموالًا طائلة في الحملات البرية والبحرية لتخليص مصر من الفرنسيين، فكانوا يعتقدون بأحقيتهم في حكمها. وقد تضمّن دفتر مُهمة مصر الرقم 11 رؤية جديدة في تفسير هذه الصراعات وتحليلها.

أما الفصل الثاني، فتناول سياسة الدولة العثمانية في مصر بعد خروج الفرنسيين، وقبل تولّي محمد علي، فضلًا عن جهودها في تثبيت حكمه بمساندته عسكريًّا ضد المماليك؛ فقد كانت تعتبر مصرَ، منذ دخولها تحت الحكم العثماني في عام 1517، ذات دور استراتيجيّ مهمّ في مناطق السلطنة الشرقية للدولة البعيدة عن إسطنبول، كما عُدَّت مركزًا مهمًّا في تعبئة الجيوش العثمانية، ومستودعًا لعتاد هذه الجيوش وبارودها في المنطقة؛ ولذلك قلب احتلال حليفتها فرنسا ولايةَ مصر معاييرَ تعاملها مع أوروبا، واضطرها إلى الاتفاق مع عدوتيها روسيا وإنكلترا لتخليص مصر من الفرنسيين.

من ناحية أخرى، تناول الفصل الثالث إنهاء حالة الفراغ السياسي في مصر بعد أن تمكنت الدولة العثمانية من إخراج المماليك منها بواسطة محمد علي باشا وتسليمه الحكم في عام 1805. ثمّ بدأ، إثر ذلك، تفكك الدولة العثمانية، والطمع الدولي والمحلي لإعادة احتلال ولاية مصر الاستراتيجية المهمة، وذلك بإغراء الأمراء المماليك للقيام بذلك، ليتصاعد حينئذ أُوار صراع شديد بين هؤلاء وبين قوات الأرناؤوط والباشي بوزوق وأمرائهم.

في القسم الثاني (قسم الترجمة)، أفاد المؤلف من مناهج الترجمة الحديثة وأساليبها وطبّقها على وثائق دفتر مُهمة مصر الرقم 11، ناقلًا إياها من اللغة التركية العثمانية إلى اللغة العربية، بعد أن قسّم الوثيقة الواحدة إلى جُمل صغيرة وفقرات لييسّر على نفسه أمر الترجمة التي اتّبع فيها أسلوب التوقف عند بعض الروابط التركية لبدء الترجمة منها. وقد استخدم في تطبيق الترجمة الأساليب الحديثة التالية:

  • أسلوب الاقتراض: يقضي بنقل الكلمة كما جاءت في النص الأصلي إلى اللغة المستهدفة في حال غياب المصطلح المعادل في اللغة المستهدفة نفسها، مع توضيح وظيفة الكلمة واستخدامها في العثمانية على قدر الإمكان.
  • أسلوب التطويع: يُقصد به فهم المعنى المراد في اللغة الأصل، وترجمته بعبارة مماثلة في اللغة المستهدفة، من دون إخلال بالمعنى. وعلى سبيل المثال؛ إذا كان الترجمة الحرفية لعبارة تركية عثمانية: “لأراك”، أو “ينبغي أن أراك”، فإنه يترجمها “لتبذل جهدك في هذا الأمر” بعد أن ترجّح لديه المعنى الصحيح المقصود من العبارة.
  • أسلوب الإبدال: يقول المؤلف إن استخدام الظروف والمصادر وطول الجملة في الوثائق العثمانية أمور دفعته إلى استخدام هذا الأسلوب الذي يقضي بإبدال فئة نحوية من اللغة الأصل بفئة نحوية أخرى في اللغة المستهدفة، مثل: إبدال فعل باسم، أو إبدال حال بفعل، أو إبدال اسم وصفة بفعل. وعلى سبيل المثال؛ إذا كانت الترجمة الحرفية هي: “والتحرير والإشارة إلى بابي العالي سريعًا بالأحوال والأوضاع التي من الضروري رفعها”، فإنه يُبدل الاسم بالفعل: “ولتحرر ولتشر” في الترجمة.
  • أسلوب التكييف (أو التصرف): يسمى أيضًا “تغيير النظرة”؛ أي تغيير صوغ النص بما يخدم ضبط المعنى في اللغة المستهدفة. وعلى سبيل المثال؛ إذا كانت الترجمة الحرفية: “وهذا الخصوص لا يُقاس بسائر الأمور الأخرى بأي وجه”، فإنه يترجمه إلى العبارة: “وهذا الأمر على درجة كبيرة من الأهمية”.
  • أسلوب التعادل (أو المعادلة): يقضي باستخدام عبارة ملائمة في اللغة والثقافة المترجم إليها، مثل تحويل الترجمة الحرفية: “بذل الجهد والطاقة”، إلى “بذل الوسع والمقدرة”.

ولجأ المؤلف أيضًا إلى ترجمة متن الوثيقة كاملًا من دون النظر إلى المواضع المكررة في الحكم، بل إنه ذكرها كما جاءت في النص الأصلي متبعًا الأمانة العملية في ترجمة الوثائق.

محمد عبد العاطي

أستاذ جامعي، باحث في التاريخ والحضارة العثمانية وتاريخ مصر في العصر العثماني.

له ترجمات عدة، منها: تواريخ آل عثمان (2019)؛‏ رؤية الوثائق العثمانية: ولاية محمد علي باشا على مصر عام 1805م (2020)؛‏ مرآة الظرفاء: التاريخ والمؤرخون العثمانيون (2022).

اترك رد