وقائع الجلسة الحواريّة حول كتاب الأديب د. جميل الدويهي “المتقدّم في النور” (21)

 

 

 

د. جميل الدويهي

 

أصدقاء الحرف والفكر المهجريّ الراقي.

بينما كنت أتابع ما تفضّلتم به من آراء حول كتابي الفكريّ الثاني عشر، تبيّن لي مقدار المحبّة التي في قلوبكم، والتقدير الكبير للرسالة التي حملتها. وهذا “المتقدّم في النور”، هو الثاني عشر في مجموعته الفكريّة، ليؤكّد أنّ المسيرة لن تتوقّف، مهما اعترضتها من صعوبات، لأنّ أهل الخير من أهلي، ومن يفهمون الأدب على حقيقته، ويقارنون، ويبحثون عن الحقيقة هم وطني الذي أرتفع به.

لقد أعزّتني المطالعات التي سمعتها وقرأتها، وكانت كلمات الإطراء تعبيراً عن قلوب صادقة، وضمائر حيّة. أمّا الألقاب التي أغدقت عليّ، في الجلسة، فكانت ترجمة لمشاعركم النبيلة، ويكفيني فخراً أنّني حملت راية الحرف، من غير تشاوف وادّعاء، فيخجلني أن أتحدّث عن نفسي، ولا أضع أعمالي فوق مكيال لكي يراها الناس، ويشهدوا بأمّات عيونهم على صدق ما أقول. وعيب حديث الإنسان عن نفسه، وعندما تسأله عمّا يقدّمه، يكون على رأسه الطير. كما أفتخر بأنّني رجل أكاديميا، وفكر، وأنواع سبعة من الشعر، ورواية، وتأريخ، وأنشر أعمالي باللغتين… وهذا كلّه لا يكفي إذا لم يقترن باحترامي للكلمة، وحرصي على أن تكون رفيعة ونبيلة، لا سوقيّة منحطّة. فلغتي مرآتي، ومثلما أكتب في كتاب، أتحدّث في المجتمع، وفي أسرتي، وبين أهلي.

المتقدّم في النور لا يخرج عن فلسفتي في الحياة. وفيه كثير من معتقدي، وإيماني بإله واحد، ورفضي لمساواة تُفرض بالقوّة والإجبار، من غير وجه حقّ، واعتناقي لمبدأ الأخوّة الإنسانيّة الرافضة لأشكال القمع والتمييز. وهو أيضاً تعليم ينطلق من فلسفات عظيمة، يوافقها حيناً، ويرفضها حيناً آخر. إنّه الوجه الحقيقيّ لأدب مهجريّ نريده عالياً وذا قيمة، ولا تهمّنا البهرجات والفولكلور. فللناس أعين وعقول، وكلّ استهتار بالعقول لا تصريف له. وليس من أحد على سطح الأرض يعرف “أفكار اغترابيّة”، يستطيع أن ينفي أهمّيّته وموقعه الطليعيّ في تأسيس النهضة الاغترابيّة الثانية، التي خرجنا بها إلى حالة التنوّع غير المسبوق في تاريخ العرب وحاضرهم، فكانت الريادة والعمادة وسام شرف لنا، ترفده المنجزات على الأرض.

وقد أردت أن يكون مشروعي مستقلّاً، منفصلاً، حرّاً بذاته، غير مرتبط بأيّ حالة أخرى. فلا علاقة له بأيّ مشروع أو مؤسّسة أو جمعيّة، لأّني أرفض أن يدخل الحابل بالنابل، فأنا متخصّص في النقد، وقد عانيت معاناة كأداء في حياتي، لأنّني أعرف أسرار الكلمة. ولا أسمح للغثّ أن يتداخل بالثمين، ولا أحبّ التزوير والتدوير، ولا أوافق على كلّ أدب، ولو وافق عليه جميع الناس، فالميزان عندي كميزان الذهب، ولكلّ حبّة معيار.

ولست وحدي في هذه المهمّة الصعبة، التي دفعتُ من أجلها الكثير. فأنا معكم أكبر وأرتفع كنخلة شاهقة، وأستمدّ النور من أنواركم، والفضيلة من فضائلكم. وسيمضي وقت طويل جدّاً، ولن أنسى وقوفنا معاً على منصّة العدل، لنشهد بكلمة هي البدء والانتهاء. ولست أفرض على الناس أن يحبّوا أو لا يحبّوا. فقد يميل المرء إلى الخريف الشاحب، ويميل غيره إلى ربيع الشذا والطيوب. وكما أنّ هناك من يسحرهم غناء العندليب، هناك أيضاً من يشجيهم طائر صامت وكئيب لا يجرؤ على الغناء. وأرجو أن أكون عندليباً ينطق باللفظة الأنيقة، والنغم الساحر، ولا أضلّ أو أتغيّر.

والملاحظات التي أدليتم بها، حفظتها عن ظهر قلب، وسأحاول أن أراعي ما جاء فيها، لأنّها ثمينة وغالية. لكنّ أغلى ما في تلك الجلسة الحواريّة حضوركم، ومشاركاتكم، وتضحيتكم من أجلي. فليس من مكافأة أستطيع أن أقدّمها لكم، سوى المحبّة والعرفان بالجميل. فما أعظمكم وأنتم ترفعون بناء الحضارة، وتبدعون في هندسته، وجعله في أفضل حال!

قلبي يحيّيكم.

 

اترك رد