الدكتور يونس الحسيني
1- النصّ من الكتاب:
-لكنّ أهلنا يقولون إنّنا نرى بعيوننا…
-هذا ليس صحيحاً… وأهلكم يقولون أيضاً إنّ الحواسّ خمس أو ستّ، فأين هي حاسّة الذاكرة، والتخيّل، والصبر، والندم، والقلق، والخوف، والشكّ، والحبّ، والضغينة؟… لقد حصر العلماء الحواسّ بالعقل، وجعلوا من الأدوات التي تخضع له حواسّ ندرك بها الأشياء. ولكن صدقاً أقول لكم، عندما يجتمع العقل والروح في وظيفة واحدة، تصبح الحواسّ أكثر بكثير ممّا نعرفه، فالعقل ليس منفرداً في عمله، بل هو في حوار مع الروح.
كان التلاميذ مندهشين بما ينفتح أمامهم من آفاق اليقين، فجال المعلّم بنظره على كلّ واحد منهم، وقال:
أنظروا إلى ذلك الساحر الذي يتجمهر حوله الناس في الساحة. هل تظنّون أنّه يخدع الناس من تلقاء نفسه، أم هناك من يحرّكونه ويدفعون له لكي يفعل ذلك؟
-لم نفهم يا معلّمنا.
-إنّه يبتلع المسامير، ويضع سيفاً في حلقه، ويخرج الحمَام من قبّعته، فهل هذا يفرحكم؟
-نعم. هذا يفرحنا، ونستغرب كيف أنّه يظهر حقيقة أمام عيوننا.
-هذا ما أردت أن أحدّثكم به. فلو كانت البصيرة هي التي تحقّق في ما يَظهر للعيان، لانفضح الساحر والسياسيّ الذي وراءه. أنتم ترون هذا المسكين، ولا ترون الآخر الذي يختبئ خلف ستارة. ومَن هو الذي يستفيد من السحر؟ ومَن الذين يزرع الفساد والفوضى في المجتمعات؟ ومَن سمح بهذا الشذوذ الذي يسود العالم تحت شعارات الحداثة والتجديد؟… لقد خلق الله العالم ذكراً وأنثى منذ بداية الحياة، ولو أراد لخلقنا جميعاً ذكوراً أو إناثاً. فلحكمته شاء أن يكون العالم على هذه الصورة. والذين غرقوا في وحول الرياء والفحش يصرخون بما يشاؤون، ولو صرخنا نحن بما نؤمن به، لاتّهمونا بالتمييز والعنصريّة… ومَن غير السياسيّ يخبرنا بأنّ الحروب فضيلة، وقتل الآخرين عمل مقدّس… وكأنّ الحياة لا يقوم لها جناحان إلاّ بعد أن ترتوي من دماء البشر الذين لا يتبعون قيَمنا، ولا يعرفون لغتنا ولا دياناتنا.
2- مطالعة د. يونس الحسيني:
لدى قراءتي النصّ الأدبيّ لعميد الأدب المهجريّ، أرى فيه عمق الأدب والفلسفة، وجملة من المواقف والاحداث، يبيّنها الأديب، ويشرحها فتطوى صفحات، وتنجز أطروحات عنها.
سوف أنتاول بعضاً من عبِره ومعانية التي تطرّق إليها، منها: “لكنّ أهلنا يقولون إنّنا نرى بعيوننا”. هذا ليس صحيحاً، فنحن لا نرى بعيوننا فقط، بل بقلوبنا. وهذا من القرائن التي أثبتها كثير من الدراسات، وحتّى الكتب السماويّة، وأكّدها القرآن الكريم في قوله تعالى (فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور – سورة الحج، آية 46). وهذا إنّما يدلّ على أنّ رؤية القلب هي أوسع وأشمل من رؤية العين، وهي البصيرة.
البصيرة هي أعظم ما وهب الله للإنسان، تعرف المعروف، وتنكر المنكر، وتلمس الحقّ، فهي تتحكّم بالجسد عن طريق العقل، وهي أيضاً “فنّ الرؤية”، حيث لا يستطيع الناس الرؤية بأبصارهم.
إنّ أبلغ درس يتعلّمه الإنسان في الحياة، هو أنّه ليس هناك ألم لا يستطيع التخلّص منه بعد فترة معقولة من الزمن، أو أن يصادقه ويتعايش معه، أو يحيله إلى أنس وسعادة، بشيء من سعة الأفق، وسعة البصيرة، والنظرة الشاملة للحياة، ففي الحقيقة ضعف البصيرة أسوأ من العمى.
وعن تسمية الأديب الدويهي للذاكرة بأنّها حاسّة، فهي في الواقع خزين لما نمرّ به من مشاعر وأحاسيس وذكريات وأحداث، وما تعلّمناه من علوم وثقافات على مدى حياتنا، فالحاسّة نسبة لما نشعر به من معانٍ وهواجس متناقضة، يميّزها العقل في كثير من الأحيان. وهنا يكمن حوار الروح والعقل.
أمّا في حديثه عن الساحر الذي يتجمهر حوله الناس، ويُفرح أنظارهم بإظهاره لبعض الحيل، التي ينظرون إليها على أنّها حقيقة ظاهرة تتجلّى أمام عيونهم، ففي الواقع كلّ أعمال الساحر تزييف للحقيقة، وهو – أي التزييف- ليس من إنتاجه في الأساس، بل هو أيضاً وجه ظاهر لما تديره تلك الأيادي الخفيّة المتلاعبة بأنظمة العالم واقتصاده، حتّى أصغر تفصيل بين البشر. فهم من يكتبون السيناريو، ويقومون بإنتاجه وتصويره كما يروق لهم، ومن ثمّ يقدّمون إنتاجهم عبر خادمهم المخادع للناس، وهنا يتجلّى المعنى الحقيقيّ لما أورده د. الدويهي في نصّه. فكم من أناس كانوا على الجادّة، ثمّ بعد ذلك زلّت أقدامهم عن ثبوتها!
كما أنّ الكاتب تطرّق أيضاً إلى موضوع، هو في غاية الخطورة، وهو ظاهرة الشذوذ التي يروّج لها الغرب اليوم، والتي تتناقض مع جميع القيم والمبادئ والفطرة التي فطر الله الناس عليها. فلو انتشرت هذه الظاهرة، فسوف تتسبّب بانقراض الجنس البشريّ الذي يتكاثر عن طريق المرأة والرجل بالتوالد، حتّى أنّ هذه الظاهرة تناقض شرعة الأديان السماويّة كافّة.
وللأسف الشديد، إن الغرب اليوم يشيع هذه الممارسات الخاطئة، ويتلاعب بأيديه الخفيّة، وينشر الحروب بين الأمم والشعوب. وهو مَن يحرّك السحرة، وبدورهم يقومون بتزييف الحقائق، وتقديمها للناس من خلال ألاعيبهم المزيّفة، ونشر ظاهرة التبعيّة… في حين أنّ كلّ الديانات السماويّة وكتبها المقدّسة تدعو إلى السلام، ففي الإنجيل المقدّس: “المجد لله في الأعالي وفي النفوس المسرّة وعلى الأرض السلام”، وفي القرآن الكريم يقول تعالى: “الله يدعو إلى دار السلام، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم – سورة يونس، آية 25)… والله هو السلام وداره الجنّة.
حقائق سياسيّة واجتماعيّة، وقيَم أدبيّة وفلسفيّة عميقة جدّاً، سردها الدكتور جميل الدويهي في نصّه، وكعادته لا نقرأ عنده غير الحكم، والإبداع الأدبيّ، وبهذا يكون قد تربّع على عرش الأدب، كأيقونة تنير عقول قارئيها.
***
*مشروع “أفكار اغترابيّة للأدب الراقي
النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع.
*تُنشر وقائع الجلسة في كتاب خاصّ يصدر قريباً من “أفكار اغترابيّة”.