مسافات: الشعر ما بين إسبانيا وأمريكا اللاتينية

 

 

   منيرة مصباح

 

أبحث دائما عن الكلمات المضيئة وعن الشاعر الذي يكتشف فعل القصيدة لا افتعالها في بحث عن حقيقة الشعر الذي لا يغيب مع مرور الوقت رغم غياب الشعراء ورغم التحولات التاريخية والاجتماعية والثقافية، لكن الشعر الذي يمتلك روح الانسان وابداعه يبقى ينشر اشعاعه في حقول المعرفة والفن. فالامكنة والازمنة ليست فقط أحجارا ونباتا وظلالا ووقتا ضائعا، بل هي نفوس  قائمة رغم الرحيل والهجرات. فالشعراء ينسجون بكلماتهم تاريخ الأمكنة والازمنة المنتشرة في حناياهم نحو فضاء الكلام. هذا ما وجدته من قراءتي للعديد من شعراء اسبانيا وأمريكا اللاتينية.

وعندما يكون مسار الإنسانية أبدي لدرجة لا يدع فيها التاريخ مجالا سوى للصدق، تصبح التجربة البشرية محفوظة بمفهومها المطلق الذي لا يبدد الابداع. والفعل الكتابي في كافة جوانبه جزء من تاريخ الإنسانية في صفته الإبداعية في أي مكان وفي أي زمان، فالثقافة تواصل بين الأمم والشعوب، والكلمة التي تدخل مدار الإنسانية  هي حلم الانسان وواقعه، حياته وموته وكل جزئيات معيشته جديرة بالتفاعل والانتشار.

روبن داريو

 

لوركا (Lorca) الذي كان مسكونا بروح الناس الذين عايشهم كل لحظة وكل خطوة، وكل كلمة كتبها أو صورها فنا شعرا أو مسرحا او رسما، لم تكن لشاعر يعذبه ويؤرقه التجريب ولم تشده الرغبة لهلامية الاشكال، انه الشاعر الاسباني أو الاندلسي كما يحب البعض ان يسميه، الذي اقام جوهره الشعري على القوة النفسية المبدعة والحيوية. تلك التي كان يسميها الروح المبدع، انها الروح الممتلئة بقضايا الناس، باغاني الغجر، والاغاني الشعبية الاسبانية.

 

قتل لوركا من قبل الدكتاتوريات التي حكمت بلاده، لكنه ترك من قتلوه في وحل التاريخ، ومازال مستمرا بذكراه عاما بعد عام من خلال شعره، رغم ان قنديل حياته قد انطفأ وهو في الثامنة والثلاثين من عمره.

 

لم يكن لوركا شاعرا فقط انما فنانا شاملا، ابدع في الشعر والمسرح و الرسم، بعد ان تفتحت عيونه على مشاعر الناس وكنوز المعرفة الخبيئة والغنية في هذا العالم، فوظفها بموهبته لمزيد من الابداع الانساني في عالم كان يعيش وما زال على حسابات بعيدة عن رؤاه.

انشأ لوركا الشاعر والمسرحي والرسام، كيانه خارج نظم القوانين والمدارس، فاصبحت اشعاره على السنة كل الناس في اسبانيا، يتغنون بها دون ان يعرفوا صاحبها قبل ان تنتشر في العالم. أبدع شعره وحدّثه بعد ان أخذ عن الفلاحين والمسنين إيقاع أناشيدهم وحكاياهم، مما فجر طاقته الشعرية التعبيرية الغنائية التي اغنت اشعاره الشجية المؤثرة. أما الاستعارات المبتكرة فكانت مليئة بقصائده، لكنها في نفس الوقت مألوفة تشغف القلب لما تحتويه من اللمحة الانسانية والموروث الفلكلوري الشعبي.

 

استطاع لوركا ان يستوعب كل ذلك الهاجس الابداعي مع الوعي بمأساة الانسان فنقل شعره من القوة الباطنية الى الفعل من خلال اللغة التي هي روح الانسان وزهرة شعره ، وهو لم يبلغ الاربعين من العمر، حيث كتب شعرا جمع فيه اكثر الاستعارات تطرفا وندرة مع اكثر الاهواء والهواجس الانسانية البديهية:

“ما أقسى ان احبك هذا الحب.. في حبك يؤلمني قلبي وقبعتي..

من يشتري حزن هذا الخيط الأبيض.. ليصنع منه المناديل

ما أقسى ان احبك هذا الحب.. أود أن أنام لحظة.. دقيقة..قرنا..

ليعرف الجميع أنني لم أمت.. وأنني الصديق للريح الغربية..

وأنني الظل الكبير لدموعي”…..

كارلوس فونتيس

 

كان لوركا مفتونا بالحياة والناس الى ما لا نهاية، يتنفس برئتهم ليمنحهم الهواء الانقى والامتداد الأوفى والروح التي لا يشغلها شيئ سوى الانسانية الصافية والرائعة، تلك النابعة من فطرته. لذلك فهم الناس كل شعره.

أما القصائد التي كتبها بعد رحلته الى القارة الامريكية والتي زار فيها جبال “سييرا نيفادا Sierra Nevada” حيث التقى أحد الرعيان وتأثر بغنائه مما جعله يغني معه هذه القصيدة الطويلة التي يبدأ مطلعها: “خضراء احبك خضراء.. الريح خضراء.. الغصون خضراء.. المركب في البحر.. والجواد على الجبل..”

بورشيا

 

هزم لوركا القوة الوحشية بقيثارته الغجرية وبالروح المبدع التي عرّفها  الشاعر الالماني”جوهان غوته Johann Goethe” بانها القوة الخفية التي يحس بها كل انسان لكن لم يعرفها فيلسوف قط.

أما في اميركا اللا تينية التي اكتسحت الرواية فيها الثقافة عامة، لدرجة انها جذبت كافة الاوساط المتجددة في العالم، لم تغفل الشعر فيها. وبرأيي ان الشعر والأسطورة أعطيا الرواية اللاتينية زخمها المتميز بين آداب العالم.

واذا عدنا الى اراء اقطاب هذه الرواية من الكولومبي ماركيز Gabriel Garcia” Marquez” الى  الارجنتيني “خوليو كولتزار “Julio Cortazar الى  روائي البيرو “ماريو فارغاس “Mario Vargas الى المكسيكي “كارلوس فوانتيس “Carlos Fuentes الى  البرازيلي “جورجي أمادو Gorge Amado  ” نجد انهم جميعهم يدينون للشعر في عملية تعميق التجربة الروائية وتكثيف عوالمها في كتاباتهم. الى جانب ان الشعر استطاع ان يرسم تلك العلاقة الضمنية مع الاسطورة التي اضحت تتقابل تقابلا حيا في نصوصهم الابداعية .

 متشادو

 

فماركيز يعترف بتأثّره بهذا الشعر الذي اختلطت فيه دماء الشعراء الهنود بدماء الشعراء الاسبان، وكولتازار تحدث كثيرا عن شاعر نيكاراغوا “روبن داريو Rubin Dario” الذي لولاه، كما يقول لبقيت الرواية تقريرية بليدة وغير متوهجة بالاسرار. وروبن داريو شاعر معروف في اسبانيا واميركا اللاتينية، فقد مهّد للأجيال الشعرية المعاصرة، من “أنطونيو ماتشادو” “Antonio Machado” الى “لوركا “Lorca مرورا “بخوان خيمنيث Juan Ramon Jimenez  ” الحاصل على جائزة نوبل و”فنسنت الكسندري “Vincent Aleixandre أيضا حصل على جائزة نوبل في الشعر .

“داريو”وهو احد شعراء امريكا الوسطى قد أثار ضجة ادبية كبيرة في اسبانيا عندما زارها لاول مرة عام 1982، واستحق بعدها لقب رائد الحداثة الشعرية الاسبانية.

كارلوس فونتيس

 

أما الشاعر الارجنتيني الذي لا يقل اهمية عن داريو، فهو “انطونيو بورشيا Antonio Porchia”، الذي وضعنا شعره في سطوة الحدث مباشرة، فهو يزرع الحكمة وسط عباراته وجمله، لكنها تظل مرتبطة بالرمزالذي يوسع الخيال والضمير.

هكذا هو “بورشيا” في شعره شاعر من طراز خاص، قصيدته توحدنا بدهشة بعيدة عن السديمية، وتكشف لنا عن غبش الاساطير، لندخل معها عالم الاكتشاف، فنتعرف على الفرح القائم داخل حسرة عميقة، توغل في احلامنا حتى البهاء. انه في شعره يتجه دائما الى اللفتة والومضة، بعيدا عن التفصيل اللغوي الجاف. فهو دائما حيادي داخل الفعل، وموقفه دائما متأتي من نظرته للطبيعة والانسان كأنه منذور للوجع وللفرح البشري الخالد.

فنسنت اليكساندر

 

شعر أمريكا اللاتينية هو ذاكرة المستقبل، هو الابداع الذي سيأتي والذي سيصير، هو نوع من النبوءة المتوهجة، كفعل الشعر الذي يحدث في الاتي، لذلك الشعر هو الزمان والمكان، والشاعر دائما ما يقف بين زمنين وبين عالمين.

اترك رد