وقائع الجلسة الحواريّة حول كتاب الأديب د. جميل الدويهي “المتقدّم في النور” (7)

 

سام حبّ الله

 

١- النصّ موضوع المناقشة:

 

العِلم وحده لا يكفي. فهل ما تدركه الحواسّ هو فقط الموجود؟ وهل الآلة وحدها قادرة على تصوير كلّ شيء؟ لقد وقع هيغل في المحظور وأدان نفسه بنفسه… ووصل به الأمر إلى حدّ السخرية. فالجاهل يعرف أنّ هناك موجودات لا نراها. والعلماء يتحدّثون كلّ يوم عن احتمالات يمكن اكتشاف حقيقتها في المستقبل… المقصود يا بنيّ من كلام هيغل أنّ الله غير موجود لأنّنا لا نعرفه بالبرهان في المختبر. وهذا المذهب لا قيمة له… فاللاوجود موجود أيضاً، كما يقول بارمنيدس وغيره من الفلاسفة، ونحن أيضاً الجالسين هنا. فإذا كانت لديك بحيرة فارغة، لا يعني ذلك استحالة وجود الماء فيها، فعندما تمطر السماء، تمتلئ البحيرة ماء، ففي حالة عدم وجود الماء في البحيرة، لا يمكن الجزم بأنّه غير موجود مطلقاً. ووجوده في الشتاء لا يعني أنّه كان لا موجوداً في الصيف. العيب إذن فينا وليس في الماء، لأنّنا نريد أن نخضع كلّ شيء لوعينا وإدراكنا، وهما محدودان.

ارتاح الكاهن قليلاً من الكلام، والتلاميذ ينظرون إليه، طامحين إلى مزيد من الفهم والمعرفة. وقال بعد ذلك:

قد تكون الفلسفة عاجزة عن تقديم أجوبة عن الألغاز التي تحيط بنا كبشر. وقد رفضها أوغست كونت، باعتبارها ماتت ولا لزوم لها. لا بل هي بحث عبثيّ يمتدّ إلى ما لا نهاية، والعِلم هو الكفيل بأن يحلّ محلّها، لتقديم تلك الأجوبة. ومثلَه فعل ستيفن هوكينغ  الذي يفضّل الاتّجاه الفيزيائيّ لشرح الكون، ويسخر من الفلسفة وأهلها في كتابه “تاريخ موجز للزمن”، ويضع حدّاً فاصلاً بين الفلسفة القائمة على تحليل غير قطعيّ، وبين العلم القائم على تجارب واختبار. لكنّ ما لم يفهمه كونت وهوكينغ هو أنّ العِلم نفسه لا يزال في طور التجارب، كما الفلسفة تماماً، وهو قادر على تقديم أجوبة محدّدة، وليس كلّ الأجوبة المطلوبة لتفسير الكون.

-هل خطأ أن نكتشف؟

-لا. فالاكتشاف رغبة جامحة، وطموح إلى المجهول. والإنسان الذي لا يحاول الاكتشاف، يشبه النملة التي ترضى من الحياة بأن تزحف على بطنها، وتحمل القُوت إلى وكرها في التراب، وتتزوّج وتنجب نملاً كثيراً. فعلى الرغم من محدوديّة الفكر، ليس علينا أن نرفض تشغيله من أجل الخير والفضيلة. لقد كان العالَم منذ خمسين سنة غير ما هو عليه اليوم، وسيكون بعد خمسين سنة أخرى مختلفاً أيضاً. وهذا العقل الذي لا يزيد حجمه عن قبضة اليد، ويعرف قطرة واحدة من بحر المعرفة،هو جبّار فعلاً إذا اقترن بالإرادة. وعلينا أن نسعى في العِلم لأنّه نور، ولا نحبس أرواحنا في أقفاص، فتصبح كالطائر الجريح الذي لا يقدر على الطيران.

٢- مطالعة الاستاذ سام حبّ الله:

 

الأخوة والأخوات، الأصدقاء والصديقات، الحضور الكريم،

يسعدني جداً أن أقف بينكم هنا لأقول بضع كلمات في نص من كتاب “المتقدم في النور” للأديب جميل الدويهي. أشكر د. الدويهي على الدعوة وإتاحة هذه الفرصة وأهنئه على تنظيم هكذا لقاء. أقول أهنئه لأنه كما يعلم معظم الأصدقاء فإني دائماً من الداعين لحلقات حوارية ونقاش معمق بمحتوى الكتاب، وألا يقتصر الأمر على حفلات التوقيع — التي على أهميتها — أن لم يتبعها حلقة نقاش وتقييم كالتي نحن بصددها اليوم فلا عدالة في ذلك للمؤلف ولا للقارئ ولا للكتاب.

غزارة بالمضمون وسلاسة بالصياغة وبلاغة بالتعبير. هذا ما يميز النص من الكتاب موضوع الجلسة الحوارية اليوم والذي هو على شكل حوار بين كاهن وتلامذته؛ حوار تطرح خلاله أسئلة جدلية حيرت البشرية منذ القدم وما زالت. فمع التقدم الكبير الذي بلغه العلم، هل يمكننا القول إننا وصلنا لمعرفة والإلمام بالعالم من حولنا؟ وهل نعيش في عالم مادي علينا فيه أن نؤمن فقط بما نراه ويثبته العلم بالتجارب والبراهين أم إن هناك جانباً روحانياً مثالياً لا نراه ولا نلمسه ولا نعلم عنه إلا القليل القليل؟ بمعنى آخر، وكما ينقل الكاتب عن بارمنيدس، هل اللاوجود موجود أيضاً؟ وعدا كل ذلك هل علينا الاحتكام للعلم أم للفلسفة عند محاولة الإجابة عن تلك الأسئلة؟

لا شك أن العلم تطور لدرجة كبيرة، ولكن ذلك التطور يكاد لا يحسب مقارنة مع ما لا نعرفه ونسعى لاكتشافه عن كوكبنا، ناهيك عن باقي الكون والمجرات الأخرى. فبعد العودة من رحلته الشهيرة مع رفاقه للقمر قال نيل ارمسترونغ – أول شخص تطأ قدماه سطح ذلك الكوكب – مقولته الشهيرة: “أنا شخص حساس، ولكني واقعي. فلم أبك عندما توفي والدي، لم أبك عندما ماتت هرتي، لم أبك عندما غادرت المنزل ووجدت وظيفة في ناسا. حتى عندما نزلت على سطح القمر لأول مرة، لم أبك. لكنني بكيت عندما نظرت إلى تلك الكرة الزرقاء الصغيرة جداً – كرتنا الأرضية، وأدركت أننا نسكن مؤقتا نقطة صغيرة هشة في الكون اللامتناهي”.

ما بين أمور أخرى، هناك ناحيتان تميزان النص. أولاً استشهاد الكاتب خلاله بأقوال ثلاثة ما بين عالم وفيلسوف مقدمًا للقارئ نبذة عن وجهة نظر كل منهم في المواضيع المطروحة. والمعروف في عالم الكتابة والبحوث أن الاستشهاد بهكذا أقوال يغني النص ويعطيه عمقاً وأبعاداً إضافية. والميزة الثانية هي الاعتماد بشكل متعمد وموفق على التشبيه لإيصال الفكرة، فمثلاً:

.   للـتأكيد أن اللاوجود موجود أيضاً يقول المؤلف “إذا كانت لديك بحيرة فارغة، لا يعني ذلك استحالة وجود الماء فيها”.

  • وفي موقع آخر يشبه الإنسان الذي لا يحاول الاكتشاف “بالنملة التي ترضى من الحياة بأن تزحف على بطنها، وتحمل القُوت إلى وكرها في التراب، وتتزوّج وتنجب نملاً كثيراً”.
  • ولإبراز أهمية السعي نحو العلم والمعرفة يدعو “لكي لا نحبس أرواحنا في أقفاص، فنصبح كالطائر الجريح الذي لا يقدر على الطيران”.

هناك نقطتان بسيطتان سأذكرهما وأترك للكاتب التعليق. فهو يقول “فعلى الرغم من محدوديّة الفكر، ليس علينا أن نرفض تشغيله”. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل يمكننا القول علينا تشغيل الفكر؟ وهل يمكن تشغيل الفكر؟ والنقطة الثانية هي القول “إنّ العِلم نفسه لا يزال في طور التجارب”.  فعل يمكننا القول إن العلم يمر بطور معين؟ ألم يكن العلم وسيكون دائماً عبارة عن سلسلة مستمرة ولا متناهية من التجارب على نظريات تثبت البراهين صحتها أو خطأها؟ وفي هذا السياق أترك للمؤلف التعليق إذ على الأرجح له أسبابه أو نظرته المختلفة. وهنا تكمن أهمية هكذا لقاءات لمقاربة الرأي بالرأي المقابل نحو المزيد من الرؤيا والوضوح.

نص من بضع مئات من الكلمات بالإمكان كتابة مجلد عنه. واللافت أنك عندما تقرأه – أي النص – لا تشعر بذلك، أي لا تشعر أنك تقرأ جزءاً من كل، بل نصاً متكاملاً فيه الفكرة والرسالة والرأي، ويمكنك من خلاله أن ترافق الكاتب في رحلة قصيرة تدرك من خلالها ولدرجة كبيرة وجهة نظره وما يدور في باله. وغني عن القول إن الكتابة في هكذا موضوع جدلي فلسفي أمر معقد ويحتاج لشجاعة وجرأة كبيرتين. وهذا ليس بغريب على الأديب الدويهي — أي ليس غريباً عليه التحليق والمغامرة لإيصال الصورة والفكرة بطريقة سلسة وشيقة. مبروك الإصدار الجديد وإلى مزيد من العطاء والإبداع بما يغني الأدب المهجري والمكتبة المهجرية ويرفع من شأنهما. شكراً لإصغائكم وإلى اللقاء في جلسات حوارية قادمة.

***

*مشروع أفكار اغترابيُة

النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الانواع.

*تنشر وقائع الجلسة في كتاب يضاف إلى مكتبة أفكار اغترابية.

 

 

اترك رد