الإعلاميّ إدمون طوق
١- النص من الكتاب:
هل للإله جسد أم روح؟
-لست أعرف إذا كان له جسد. وروحه ليست كأرواحنا، بل هي خالدة، لا عمر لها ولا انتهاء لأيّامها. وفي الإله أيضاً قيَم لا ندركها، كإرادة الخلق، والإبداع، والطاقة الهائلة التي كوّنت ما هو معروف لنا، وما لا ندركه. وتلك الطاقة هي التي تسيّر الوجود، ولا تخطئ.
-ولماذا لسنا ندرك؟
-لأنّ عقولنا صغيرة… وعلى الرغم من ذلك فهي تقودنا إلى مسالك الخير والشرّ، في ضوء الروح. فإذا كان العقل والروح شرّيرين تحوّل العالَم من حولنا إلى بؤرة للشرّ، وإذا كانا خيّرين كان العالَم خيّراً… وسأعطيك مثلاً واضحاً، لكي تعرف حجم العقل الذي تتخايل به، وتعتقد أنّه وسيلة للمعرفة: كان هناك عالِم مخترع، تمكّن من اختراع آلة يرى بها الكون. وعندما شغّل الآلة، تراءت له أبعاد لا تُحدّ، وأكوان كثيرة لم تكن معروفة، فكاد يطير من الفرح. آلاف الكواكب انبسطت أمامه، ومجرّات كثيرة اتّضحت له. بيد أنّ قدرة الآلة كانت لها حدود، فتوقّفت، ولم يعد ذلك العالِم يعرف ماذا وراء البَعد. فطوّر آلته مرّة بعد مرّة، وفي كلّ مرّة كانت تَظهر له أكوان، ثمّ تتوقّف الآلة… هل فهمت ماذا أعني؟
قال التلميذ: فهمت. أنحن صغار إلى هذا الحدّ؟!
-نعم… نعم… إنّ الكون الذي نعرفه قد يكون بمقدار حبّة رمل بين الأكوان التي لا نعرفها، والأرض التي نتخاصم ونتشاجر عليها أقلّ بملايين المرّات عن حبّة الرمل تلك، والفرد البشريّ أصغر بملايين المرّات أيضاً عن تلك الجزيئة الحقيرة التي هي الأرض… ولكي تقتنعوا بصدق ما أقوله، فإنّ علماء الفلك اكتشفوا مؤخّراً ثقباً أسود هائلاً، يبلغ حجمه حوالي 33 مليار ضعف حجم الشمس. والشمس نفسها أكبر من الأرض بحوالي مليون وثلاثمئة ألف مرّة. وإذا اعتبرنا أنّ هناك ثقوباً سوداء أخرى كثيرة، يبلغ حجمها معاً ما بين10 مليارات و40 مليار ضعف كتلة الشمس، يتبيّن لنا أنّ المجرّة التي نحن جزء منها لا تعادل حبّة طحين، والإنسان أصغر بمليارات المرّات عن تلك الحبّة.
ولو جاءكم ملاك من السماء وقال لكم: إنّ زمن حياتكم يشبه اللاشيء في حجم الزمان، منذ البدء غير المعلوم للدهور، حتّى النهاية غير المعلومة لها… وإنّ حجم الواحد منكم يشبه اللاشيء أيضاً في حجم الأكوان، لغضبتُكم من الملاك، وتجادلتم معه، وقلتم له: لماذا تأتي إلينا بهذه الرؤى المتشائمة؟ فنحن نقيس أعمارنا وأحجامنا بمقدار ما تفهمه أفكارنا، فانظر إلى ما حقّقناه من نجاح، وما بنيناه من مدن وجسور، وما ارتديناه من الثياب والجواهر… فمسكين هو الملاك الذي سيمضي عنكم وهو يتمتم قائلاً: إنّ أفكاركم صغيرة، ولا تصوّر لكم إلاّ ما يرضيكم.
٢- مطالعة الأستاذ إدمون طوق:
يسأل المؤلف الدكتور جميل الدويهي: هل الإله جسدٌ أم روحٌ؟
يسأل الإنسان هذا السؤال ككائنٍ حيٍّ، وهو ذَرّةٌ من ذراتِ الكونِ اللامحدود لا بالشكل ولا بالحجم ولا بالزمن، وأمثلة الكاتب ماثلة في فكره، وكتابه المحتفى به “المُتقدم في النور” عندما يقول:
“إنّ الكونَ الذي نعرفُهُ قد يكون بمقدار حبّة رملٍ بين الأكوان التي لا نعرفُها، والأرض التي نتخاصم ونتشاجر عليها أقلّ بملايين المرّات من حبّة الرمل، والفرد البشريّ أصغر بملايين المرّات أيضاً عن تلك الجزئية الحقيرة التي هي الأرض. ولكي يُقنعَنا، استشهد بعلماء الفلك الذين اكتشفوا مؤخّراً ثقباً أسود هائلاً، يبلغ حجمه حوالي ثلاثة وثلاثين مليار ضعف حجم الشمس. والشمس نفسُها أكبر من الأرض بحوالي مليون وثلاثمئة ألف مرّة. وإذا اعتبرنا أنّ هناك ثقوباً سوداء أخرى كثيرة، يبلغ حجمها معاً ما بين عشر مليارات وأربعين مليار ضعف كتلة الشمس، يتبيّن لنا أنّ المجرّة التي نحن جزء منها لا تعادل حبّة طحين، والإنسان أصغر بمليارات المرّات عن تلك الحبّة”.
يعتمد الكاتب مقاربة دقيقةً بالأحجام والأزمان وحتى الطاقة الكونية التي تُسيّر النِظام الكوني مع العقل البشري. إن الإنسان الذي استحق وبجدارة تنصيب نفسه ملكاً على الكائنات على سطح الأرض محاولاً استنفاد قُدُراته العقلية والذهنية المتمثلة بالذكاء والإرادة والنوايا والرؤى والماورائيات في إطار الإكتشافات أو الإلكترونيات أو الرحلات الفضائية، لم يستفِد من طاقة العقل إلا بنسبة قليلة جداً. وبالعودة لسؤال الكاتب: هل الإله جسد أم روح؟
أقول بأنّ الإنسان رغم ملايين السنين من عمره على سطح الأرض، وما تخلّلها من حضارات وثقافات وإختراعات وإكتشافات، لم يُجزم حتى الآن، لا علمياً ولا دينياً بأيّ من الفرضيّات الثلاث، إذا كان هو بنفسِه من جسد وروح، أو من جسد وروح ونفس، أو من جسد وروح التي هي النفس.
إن الجانبَ الماديّ من الإنسان هو الجانبُ الملموس الدنيوي: أي الجسد. أما غيرُ المادي فهو عدةُ جوانبَ غير ملموسة: النفس، الروح، الذكاء، الإرادة، الضمير، العقل، الروئ، النوايا… الخ…
يمتلك كل البشر الصفات المادية (الجسدية) ولكن كثيراً ما يوجدُ جدال حول الصفات غير الملموسة، غير الجسدية. فماذا يقول الكِتاب المقدس عن هذه الصفات؟ إن الإنسان “نَفْسٌ حَيَّة”. وإنّ الله هو “إِله أَرْوَاحِ جَمِيعِ البَشَرِ” ، وإن الضمير جُزءٌ من الذهن الذي يعرّفنا على الصواب والخطأ.
هناك إتصال وتداخل بشكل ما، بين النفس والروح والمشاعر والضمير والذهن. وقد تتكون النفس/الروح من كلّ الجوانب غير المادية الأخرى من الإنسان. وفي ضوء ذلك، من المستحيل أن نكون جازمين في إجابتنا.
فقد إختلف اللاهوتيون حول هذا الموضوع لعقود طويلة، ولم يوجد إعلان قاطع بشأن أيها الصحيح حتى الآن.
قال البعض خطأً، إنّ الله يتواصل بطريقة غامضة مع أرواحنا متخطياً أذهانَنا. وبناءً على نفس الفرضية الخاطئة للنظرة الثلاثية، التي تؤدّي إلى القول بإمكانية أن يكون المؤمن ملبوساً بأرواح شريرة، لا توجد شواهدُ على أنّ من يسكنُهم الروح القدس يمكن أن تتملكَهم أرواح شريرة في نفس الوقت.
فكيف لي أن أعرف إذا الله جسد أو روح أو نورٌ أو كلٌّ، فالفكرة من نتاجِ إنسان مخلوق حي، سبق وحددنا أنه أقلُّ من ذرة غبارٍ في هذا الكون اللامحدود واللامتناهي.
إنّ كتاب “المتقدّم بالنور” يكشف عن سنين من العطاء، قدّمها الدكتور جميل الدويهي ذبيحةً على مذبح الفكر والإنسان. هذه أعمال المفكّرين عموماً. خُطًى تَكشَفُ كلٌّ منها عن شيء من رموز الكون وحكمته العميقة، وأعمالُ هذا المفكر شهادةٌ مشرّفةٌ له على أنّه يسلك هذه الطريق العريقة نحو “التقدّم في النور” .
ويبقى الصراع العنيف بين إنسان “اللحم والدم”. الأوّلُ مقيّدٌ بسلاسل، مقوقع في مادّة، مجبول بتراب ، لا يطلّ على الكون إلاّ من خلال حواسِّه وأعصابه. والثاني ينهدُ ويتوق إلى رحاب المطلق. والانسانان كلاهما اثنان في واحد، ممتزجان، متلاصقان، متشابكان، متكاملان في صراع دائم. فلا الأوّل مادّة فحسب كي لا يُعَقِّل ذاتَه ويعي جوهرَه، ولا الثاني عقل وروح فحسب ليرتع بنعيم الحرّية المطلقة.
بهذه الطريقة يحاول جميل الدويهي أن يثبتَ رأيه “المتقدّم في النور” ليقول إنّ الروح الكلّيّ هو اللامعقول. بمعنى أنّ العقل لا يستطيع إدراكَه، كما الإيمانُ وحدَه يمكنُه إدراكَ الروح وفي الوقت ذاته استجلاءَ المبدأ المطلق الأبعد الذي هو الله.
إن إنكارَ هذه الحقيقة الروحانيّة المطلقة قد قاد في النهاية إلى ما نراه اليوم خاصّة، من قلق وضياع وتمويه بل طمس للمحبّة، المختلفة نوعيّاً وجوهريّاً عن الحبّ، نتيجة الخوف واليأس، وحصر لوجود الإنسان وقياسه بعامل الاقتصاد.
من هنا صدق الدكتور جميل في نصه عندما قال: “إن روح الله ليست كأرواحنا، بل هي خالدة، لا عمر لها ولا انتهاء لأيّامها. وفي الإله أيضاً قيَمٌ لا ندركها كإرادة الخلق، والإبداع، والطاقة الهائلة التي كوّنت ما هو معروف لنا، وما لا ندركه. وتلك الطاقة هي التي تسيّر الوجودَ، ولا تخطئ”.
وفي مسك الختام لا أُوافق المؤلف على إشراك الروح مع العقل في مسالك الخير والشرّ، لأنهما – أي الخير والشرّ – من فعل العقل. وأما الروح الشرّيرة أو الخيرة فهي نتاج مجموعة ذهنية عرَّفناها بالضمير والنوايا والإرادة والذكاء والبيئة الحاضنة التي تحوّل العالَمَ من حولنا إمّا إلى بؤرة للشرّ، وإما إلى مجتمع خيّر وصالح.
وأخيراً. أوافق الكاتب عندما قال: “نحن نقيس أعمارنا وأحجامنا بمقدار ما تفهمه أفكارنا، ولا تصوّر لنا إلاّ بما يرضينا. فنحن هكذا فعلاً، فلو نقتنعُ بأنّ الأرض أصغرُ من حبّة طحين، ونحن كأفراد أصغرُ بكثير من تلك الحبّة، لكنّا يئسْنا وقعَدنا عن فعل أيّ شيء في مسيرة وجودِنا وطموحِنا، سواءٌ إلى الخير أم إلى الشرّ”.
***
*مشروع أفكار اغترابيّة للأدب الراقي
*تنشر وقائع الجلسة في كتاب يضاف إلى مكتبة أفكار اغترابية.