الدكتور جوزاف ياغي الجميّل – لبنان
النصّ الأوّل: وجود الله أبعد من حدود الصدفة
وجود الله! سؤال حيّر العلماء والفلاسفة والمفكّرين، ليس لأنه صعب، بل لأنه سهل جدا، إلى أقصى الحدود. والجواب البسيط المؤكّد هو غياب الصدفة، في فعل الكينونة.
يقول المبدأ الإلهيّ كن فيكون.
والكون، في عمليّة خلقه، مرتكز إلى تنظيم عميق، لا حدود له، ولا مجال فيه للصدفة. وفي ذلك يعلن الأدبب الفيلسوف الدكتور جميل ميلاد الدويهي أهمية هذا التنظيم في مسار الكون الكلّي، والذي لولاه لانهار، وتفككت أجزاؤه، وصار إلى زوال، في طرفة عين. والمتأمل في هندسة الأفلاك والمجرّات يدرك صحة هذه الفرضيّة.
ويبقى السؤال الفلسفيّ: هل الله موجود؟
والجواب المنطقيّ هو نعم، وبكلّ تأكيد؛ لأنه، وكما تقول القصة العقليّة لا يمكن أن تتجمّع الأخشاب، وتتحوّل إلى مركب، من دون صانع. وهذا الصانع هو خارج المركب، ومحيط به، ولديه القدرة والمادة لصنعه. وقياساً على ذلك، فالعالم المترامي الأرجاء، لا يمكن أن يكون بلا صانع. فما هي تلك القوّة التي صنعته بهذا الاتساع والتنظيم؟
اختلفت التسميات حول اسم صاحب هذه القدرة. ولكن العقل البشريّ بقي عاجزاً عن معرفتها واكتناه سرّها العظيم.
نعم للعالم في مسرحيّة خلقه الكبرى مخرج يجيد تحديد الموضوع، وتنظيم الأحداث، وتسيير الشخصيّات. وهذا المخرج هو الله، مهما اختلفت التسميات.
نعم، أيها الأديب الدويهي. إن العالم مسرحية. ولا مجال فيها للصدفة أو الخطأ. وهذا ما جعلها مستمرّة، منذ فجر التكوين. ولكن التوصيف مجازيّ طبعاً؛ هدفه الشرح والمحاكاة فقط. ولا مجال للمقارنة بين مسرحيات الإبداع الجمعي الأرضي، وإبداع عملية الخلق الإلهيّة. فالعقل الإنسانيّ، مهما تطوّرت قدراته، يبقى ضمن المحدود والجزئيات، غير قادر على تجاوزها إلى المعرفة الكلّيّة القادرة على الإبداع من عدم، انطلاقاً من عمليّة كن فيكون.
هذه هي الإشكالية التي يقدّمها النص الفكريّ الثاني للأديب الدويهي. فهل استطعنا فهمه، في هذه الكلمة الموجزة؟ وهل يمكن اختصاره في كلمات وكلمات؟
أقول لا بكلّ تأكيد. ولكن قراءتي هذه محاولة لاختراق القشور إلى اللباب. إن أخطأت لي أجر واحد، وإن أصبت فلي أجران. ويبقى الجواب، مثل عملية فهم حقيقة الوجود، أكبر من إدراك العقول، وأبعد من حدود الصدفة. والله وليّ التوفيق.
^^^
النص الثاني: وجود الخالق بين الفلسفة الدويهيّة النورانية وسفسطائيّة الملحدين
المتقدّم في النور كتاب فكريّ جديد للأديب الدكتور جميل ميلاد الدويهي. كتاب تعيدك قراءته، للوهلة الأولى، إلى كتاب المنقذ من الضلال، للفيلسوف الإسلامي أبي حامد الغزالي. ولكنك حين تغوص فيه إلى الأعماق، في مضمونه والأسلوب، تجده أقرب إلى الفكر السقراطيّ، وكأنّك في زمن المشّائين، في اليونان القديمة، تتابع دروس الفيلسوف اليوناني، أرسطو، في أروقة المعرفة.
المقالة الأولى في الكتاب عنوانها” وجود الخالق”. وهي مقالة ذات طابع فلسفيّ أدبيّ تروي قصة كاهن في معبد يتباحث وتلاميذه في أمور الروح والجسد. فيعلن الكاهن أن الجسد هو وعاء الروح، ولولا التوازن بينهما لما كان الإنسان، ولغدا الجسد أشبه بقصبة في البرّيّة لا تشعر ولا تحسّ.
الطريق طويل أمام الكاهن وتلاميذه. إنّه طريق الحياة، بل طريق المعرفة. وفي هذا الطريق التقى الكاهن امرأة تسأله إن كان الله يغفر لها خطاياها. فوعدها الكاهن خيراً لآنّها آمنت أنها ابنة الله، لا بنت البشر.
صورة الكاهن وتلاميذه هي نفسها صورة السيد المسيح. هي القصّة الإنجيليّة تتكرّر، في مسيرة السيد المسيح، نحومدينة السلام، أورشليم. أمّا الكاهن الدويهيّ فوجهته نحو “القمّة العالية التي ينبغي أن يصعد إليها، في آخر أيّامه”(ص 11).
ويستمر الحوار بين الكاهن والتلاميذ، محوره الروح والجسد، فيسأله التلاميذ: ” هل للإله جسد أم روح؟”( ص 13) فيجيب الكاهن: ” لست أعرف إذا كان له جسد وروحه ليست كأرواحنا، لا عمر لها ولا انتهاء لأيّامها”( ص 13). وهنا نسأل المفكّر الدويهيّ: ألا ينكر هذا الجواب حقيقة التجسّد التي تؤمن بها المسيحيّة؟
وهل يحاول الكاتب مراعاة من يرفضون فكرة تجسيم الله؟
يؤمن الدكتور جميل الدويهي بفعل التجسّد لأنّه يتحدّث عن مجيء السيّد المسيح إلى الأرض بطبيعته الإنسانيّة. ولكنّه يذكر أن طبيعته الإلهيّة ليست معروفة. وهذا أمر يؤكّده واقع أن التلميذَين الذاهبَين إلى عمّاوس، كما ورد في الإنجيل، لم يعرفاه حين رافقهما على الطريق.
يجيب الدويهيّ بشكل غير مباشر عن سؤالنا هذا معلناً أن الله هو “الطاقة التي تسيّر الوجود ولا تُخطئ” ونحن عاجزون عن إدراكها ” لآنّ عقولنا صغيرة”( ص 14).
ويناقش الكاتب رأي الفيلسوف الألماني جورج فرديريك هيغل(ت 1831) الذي يقول” إنّ كلّ ما هو حقيقيّ واقعيّ وكلّ واقعيّ حقيقيّ”(ص 16)، وبين الحقيقة والواقع علاقة جدليّة رفضها الدويهيّ لأنّ ثمّة حقائق لا يدركها العقل البشريّ المحدود، ويقول مؤكّداً: لقد وقع هيغل في المحظور، وأدان نفسه بنفسه..”( ص 16)؛ وذلك لأنّ ” الفلسفة عاجزة عن تقديم أجوبة”( ص 16).
ويرفض الدويهيّ أيضاً رأي كلّ من عالِم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت(ت 1859) والعالِم الإنكليزي ستيفن هوكينغ(ت 2018) اللذين ارادا الاعتماد على العقل وحده، في فهم وجود الله؛ قائلاً بالتلازم الحتميّ والتكامل بين العقل والروح. كما يدحض رأي الفلاسفة الملحدين معلناً أن المؤمن وغير المؤمن يتساويان في جهلهما حقيقة وجود الله، أو عدم وجوده.
ويتطرّق الدويهيّ في مقالته إلى رأي الفيلسوف اليوناني سقراط الذي انسجم والديانات القديمة حول سبب الوجود، معلناً، أي سقراط، أنّ الله هو” المصدر الأوّل للوجود “(ص 20).
ويتساءل الدويهيّ عن سبب خوف الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه( ت 1900) من فكرة وجود الله، فيقول إنّ قوى الشرّ تدعو إلى إنكار وجود الله خوفاً من الحساب. ( ص 20)
ويرى الدويهيّ أنّ الشعوب القديمة لم تكن تفكّر بأنّ الخالق موجود، ثم اهتدت إلى وجوده. وقد تطوّرت فكرة الوجود هذه من الله الخالق إلى المراقب والمحاسب. و”هذا التطوّر اعتنقته الديانات كلّها، وأصبح كلّ إنسان مؤمنٍ يخاف من الحساب، ويعمل خيراً طمعاً في المكافأة” (ص 21).
وينتقل الكاتب إلى مناقشة موقف الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر القائل بأنّ “الإله لا وجود له”( ص 22)؛ لأنّ وجوده مناقض لحرّية الإنسان. فسأل سارترَ كيف عرف عدم وجود الله؟ وأضاف بأنّ “الحرّيّة التي تطالب بها الحكمة هي حرّيّة معقولة، أمّا حرّية سارتر فغير مقيّدة، وهي تعني، من دون شك، الفوضى وانهيار القيم”( ص 22).
وينتهي الفيلسوف الدويهي إلى سؤال الذين يؤمنون بموت الله: هل اختلّ نظام الكون، وانهارت عناصره؟ ويقول، في خاتمة المقالة: ” لا يا بني، فإنّ الحركة التي بدأت منذ الأزل، لا تنفك تعمل بانتظام عجيب… ما دام عمل الله ماثلاً، فهو حيّ، ونحن أحياء فيه…”( ص 23).
مقالة الدويهي جمعت بين الأدب والفلسفة، حتّى ليصحّ فيه أن يُلقّب بأديب الفلاسفة. وفي ذلك يقول الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون(ت 1941) إن اللقاء بين الأدب والفلسفة في الفكر المعاصر دعوة الحق. ودعوة الحق الدويهيّة دليل على إيمان عميق ينطلق من الكوجيتو الديكارتيّ: أنا أفكّر إذاً أنا موجود. والتفكير الدويهيّ ليس مبنيّاً على مسلّمات، بل على تفكير عميق صادر عن تمرّس في القضايا الفلسفيّة التي يعالجها في كتاباته. ومن أبرز مقوّمات هذا التفكير:
أوّلاً: الإيمان بالنور الداخليّ المنبعث من داخل الإنسان. إنّه نور القيم الإنسانيّة التي لولاها لما كان للإنسان وجود.
ثانياً: الاعتراف بالقوّة المطلقة، أو الطاقة التي تسيّر الكون. وهذه الطاقة قد تختلف تسمياتها، ولكنّها في المفهوم المطلق، تُدعى الله.
ثالثاً: تأكيد دور الأديب كمصلح اجتماعيّ أخلاقي. وهو دور يقارب دور الأنبياء والمرسلين. فالأديب هو كاهن في معبد الوجود، ذو صفات صوفيّة مشرقيّة تحاكي صفات بوذا، وزرادشت، وصفات مسيحانيّة تشابه دور السيّد المسيح مع تلاميذه، حين كان يحدّثهم بالأمثال، ويشرح لهم تعاليمه عبر فن المقابلة والبراهين الواقعيّة.
رابعاً: اكتفاء الدويهيّ في مقالته بعرض آراء الفلاسفة وعلماء الاجتماع والفيزياء الملحدين، دون غيرهم من الفلاسفة المؤمنين، فلم يتطرّق إلى فلسفة الإلهيين ومن أبرزهم ابن سينا(ت 1037 م) وتوما الأكويني(ت 1274م) ورينيه ديكارت( ت 1650)، الذي قال بفكرة الكائن الكامل اللامتناهي، أي الله. والغاية من ذلك دحض النظريّات الفلسفيّة الهدّامة المنكرة لوجود الله، أو التي لا يعنيها الله في شيء.
خامساً: اعتماد التناص الإنجيليّ كما في قصّة المرأة الخاطئة، وقصّة الولادة الجديدة التي أعلنها السيّد المسيح لنيقوديموس: ” المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح”( يو 6:3)
سادساً: التأثّر بفلسفة الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنتز(ت 1716)الذي يقول: “وإذا كانت عقولكم لا تتصور هذا الإله فلا يلزم عن ذلك عدم وجوده، فكثير من الحقائق لم تتمكنوا من تصورها وهي موجودة عقلا” فيكفي للعقل أن يستدل على وجود الإله بآثاره.
سابعاً: اعتماد الأسلوب الساخر في الخطاب، كما في تشبيهه الذين يعتمدون على العقل وحده لمعرفة الحقائق بأنّهم” أتفه من الضفادع التي تنقّ في مستنقع.”(ص 19)
ثامناً: غائيّة إثبات وجود الله لم تكن فلسفيّة بحتة بقدر ما كانت دعوة إلى السلام بين البشر، حمايةً للإنسان، قيمة القيم، الذي فيه نفَس من أنفاس الإله، فأصبح ” بضاعة غالية جدّاً، فكيف نتحارب ونتقاتل، ونعرّض أنفسنا للموت..”(ص 10)
تاسعاً: إعلان أن الله الذي يؤمن بوجوده هو إله محبّة وسلام، خلق البشريّة، و” أراد لها أن تكون منتظمة، ولا تتلوّث بالشرور والآثام..”( ص 12) ويتحقّق هذا الانتظام بالحرّيّة المنضبطة، والخضوع المتبادل بين العقل والروح.
عاشرًا: الإيمان بقدرة الإنسان الحرّ في السيطرة على عقله، لأنّك “لو تركت العقل يجري على غير هدى، فقد لا يبقى لله مكان فيك”. ( ص 13)
ختاماً نقول: لم يدّع المفكّر الدكتور جميل ميلاد الدويهي-متواضعاً- أنّه فيلسوف، إذ يقول في مقدّمة كتابه(المتقدّم في النور):” وأنا لست فيلسوفاً، بيد أنّ المبادئ التي أؤمن بها أساساً لحضارة ومدنيّة جديدة، هي خلاصة فلسفات وثقافات واتجاهات متعدّدة… فلسفة مفيدة للعالم…لإعادة تكوين المجتمع الحضاريّ ، وتأسيسه على أعمدة الخير والمحبّة والحرية والعدالة والتسامح. وعندي ، كما قلت دائماً، أنّ الإنسان كان قبل الأديان، وقد جاءت لتنويره، أمّا الله، فكان قبل كلّ شيء، وقبل الوجود”. ولكننا نقول، بكلّ تأكيد، إنّ الدكتور جميل الدويهيّ، في أدبه وفكره خير مثال للفيلسوف الحقيقيّ، في ثالوث الفلسفة الحقيقيّة: الله والإنسان والخير. وأيّة فلسفة لا تقوم على هذا الثالوث الداعي إلى السلام لا تعدو كونها سفسطة وترّهات وتخبّطاً في الظلمات.
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “افكار اغترابية” للأدب الراقي
النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الانواع.