يواصل مشروع افكار اغترابية رسالته الحضارية والفكرية، ويقدم كل يوم قصة من التاريخ الاسترالي، بعنوان “أصوات من تيرا اوستراليس”، على مدى ثلاثين يوما ً، لضمّها في كتاب جديد، يصدر هذا العام عن المشروع.
القصة ا لاولى: الحمامة البيضاء تحطّ على الشاطئ
كانت السفينة الهولنديّة “دايفكن” تغالب الأمواج العاتيّة في المضيق الذي يفصل بين أندونيسيا و”تيرّا أوستراليس” غير المكتشفة بعد.
إنّه العام 1605، والتنافس قويّ بين هولندا، وفرنسا، وأسبانيا، وإنكلترا والبرتغال، لاكتشاف مستعمرات جديدة. وجنوب شرق آسيا الغنيّ بالتوابل والحرير هو الهدف المرتجى.
كان فيلهلم جانزون، البحّار الهولنديّ الاسطوريّ، يقف مزهوّاً على مقدّمة السفينة التي تقوده وجماعة من البحّارة الشجعان، باتّجاه الجنوب، وهم لا يعلمون إلى أين سيصلون. فالخرائط التي معهم لا تبيّن وجود أرض أبعد ممّا يعرفونه في أندونيسيا التي يسمّونها “جزر الهند الشرقيّة الهولنديّة”.
اقترب أحد البحّارة الشبّان من جانزون، وسأله:
هل نحن متّجهون إلى الغرق والموت؟ أم إلى أرض غير مكتشفة؟
التفت القائد إليه، وابتسم ليهدّئ روعه، قائلاً:
هل يقول البحّارة الآخرون ذلك؟
-ربّما يا سيّدي. بيد أنّهم يحبّونك، ولا يجرؤون على التصريح بما يشعرون به في هذه الرحلة الغامضة… لقد كانوا معك في السرّاء والضرّاء، وواجهوا العواصف والمحيطات الهائجة، ونازلوا القبائل العارية التي كانت تَرى للمرّة الأولى رجالاً من البيض ينزلون على شواطئها… وخرجوا معك بأمان من كلّ تلك الأخطار… فهل تشكّ في ولائهم، وتستغرب إن كانوا لا يتبرّمون؟
ربّت جانزون على كتف البحّار، وهمس له:
أعرفهم جميعاً بالأسماء، وأحبّهم كلّهم كما أحبّ إخوتي في أمستردام. وسيكونون أثرياء إذا عثرنا على الذهب في الأرض التي نقصدها…
-أيّ ذهب؟ وهل هناك يابسة بعد، غير موجودة على الخرائط؟
-في حدسي أنّ هناك بلاداً غير مكتشفة، وسيكون فتحاً عظيماً لنا أن نسبق الأوروبّيّين الآخرين إليها… لا تخف… لا تخف… سنعود إلى بلادنا سالمين، ولن أعرّض أحداً منكم لأيّ مخاطر.
هدرت الرياح من جديد، ومالت السفينة، فكادت تجنح، وتمسّك جانزون بعمود حديديّ في مقدّمتها.
كان الصباح قد بزغ للتوّ، وهو لم ينم. فقد مضت أشهر، وسفينة “دايفكن-الحمامة البيضاء” تشقّ صدر اليمّ، فلا تتعب، ولا تبلغ مكاناً. وبينما هو يتأرجح بين القلق والرجاء، ظهر شاطئ رماديّ في البعيد، فرفع منظاره مرّة ثمّ مرّة أخرى، ليتأكّد من أنّ ما يراه حقيقة وليس وهماً. وكان البحّارة قد لاحظوا هم أيضاً تلك الأرض تتراءى لهم كخيط من الأمل، فاغتبطوا أيّما غبطة. وكانوا مرهقين، ويحتاجون إلى دقائق من الراحة بعد طول المجاهدة والانتظار. وصفّقت “الحمامة البيضاء” مزهوّة بالانتصار، ولم يكن أحد يفكّر بأنّ التاريخ لن ينصف المكتشفين الحقيقيّين لأستراليا، وسيتباهي البريطانيّون بعد مئة وخمسة وستّين عاماً بأنّ لهم قصب السبق في الوصول إلى القارّة الجديدة، ويصبح فيلهلم جانزون اسماً عابراً في الكتب والروايات القليلة التي تروى عنه.
كانت جزيرة “كيب يورك”، في أقصى شمال أستراليا، أوّل موطئ قدم لجانزون ورفاقه. ثمّ أبحروا بمحاذاة الساحل، وهم مندهشون من الطبيعة الجديدة، والأشجار التي تقشر لحاءها، والحيوانات البرّيّة التي تقفز هنا وهناك، فكأنّها من كوكب آخر.
نزل الهولنديّون بحذر إلى الشاطئ، وتنفّسوا الصعداء، إلاّ أنّهم كانوا حذرين، وجهّزوا بنادقهم لأيّ مواجهة محتملة. وبينما هم ينصبون خيامهم، ويشعلون أوّل نار لهم في الموقع، ظهر لهم رجال سمر البشرة من أجمة قريبة، فتقلقلت البنادق في أيديهم، ورفعوها خشية، فأمرهم جانزون بإنزالها والانتظار برهة، ليعرفوا إذا كان هؤلاء السكّان الأصليّون مسالمين أم لا.
من أنتم؟
صاح جانزون بأصحاب الأرض؟
لم يفهموا لغته، ولا هو ورفاقه فهموا لغة الرجال السمر الذين يرفعون رماحاً من الخشب.
وتقدّم أحد الأبورجينيّين خطوتين، وانحنى تعبيراً عن السلام.
كان ذلك القائد لأمّة “ويك-مانغكان”، وهي أمّة واحدة من أصل خمسمئة عشيرة من الأبورجينيّين الذين عاشوا في أستراليا منذ قبل التاريخ.
أشار جانزون على أحد البحّارة بأن يقدّم إلى أهل البلاد الصابون والطحين، فنظروا إليهما ورفضوا أن يأخذوهما. فسأل هولنديّاً آخر عن التبغ. وكان في السفينة بعض منه، فأحضروه وأشعل بحّار لفافة، وضعها في فمه على عجل، ثمّ سحبها، ونفخ دخاناً في الفضاء، فدهش الأبورجينيّون وأعجبتهم الفكرة، وثرثروا فيما بينهم، ومدّوا أيديهم للحصول على التبغ، قبل أن ينسحبوا إلى داخل الأجمة.
كانت تلك إشارة على الوئام، فاطمأنّت قلوب الهولنديّين، ومضوا يبنون خيامهم، ويحفرون في الأديم بحثاً عن مياه للشرب.
لكنّ الهدوء لم يدم طويلاً، فقد بدأ البيض يعيثون في الأرض فساداً، ويبحثون عن مَواطن السمر لخطف النساء والأطفال، فاندلع العنف بين الطرفين، وقَتل السكّان تسعة من أفراد الطاقم العشرين الذين كانوا على متن “دايفكن”.
فرّ جانزون لا يلوي على شيء، وهو يتحسّر على الفتح الذي ضاع منه، غير أنّه عزّى نفسه بالقول إنّ تلك الأرض غير صالحة للسكن والزراعة، فهي تشبه المستنقعات. وهذا الزعم تكرّر على لسانه بُعيد وصوله إلى وطنه الأمّ.
ها هي سفينة “دايفكن” تعود على أعقابها، بعد هزيمة نكراء. إلاّ أنّ جانزون أضاف إلى الخارطة أرضاً جديدة أسماها “Terra Australis Incognita”، أي الأرض الجنوبيّة غير المعروفة، وهي الخارطة التي سيستفيد منها فيما بعد بحّاران هولنديّان آخران، هما ديرك هارتوغ، الذي وصل أيضاً إلى أستراليا بعد عقد من الزمان، وآبل تاسمان الذي اكتشف “تاسمانيا” عام 1642. كما سينظر إليها البحّار البريطاني ويليام دامبيير الذي بلغ السواحل الأستراليّة قبل جايمس كوك بعامين.
***
*غداً: جايمس كوك – نهاية ماساويّة
مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي
النهصة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع.