من مجموعة قصص قصيرة “من أجل الوردة”
كان فقيراً مثل عشب الأرض، لكنَّه يملك خيمة من قصب على ضفاف جدول.
وكان عنده وردة في حديقة عرَقه، وأولاد صغار، يُطعمُهم من صباح يديه، وخابية مكسورة فيها بقايا من ذهب أحلامه.
رأيتُه ينحت في الغابة، ويصنع من جذوعها فاكهة لموقد، وليس في موقده عود حطب لشتاء؛ فصاحب النار لا يملك منها سوى جمرة انتظار، ودخان أغنية.
وسمعتُه صوتاً عالياًً فوق جسر التعب، وضربة فأس يبدأ بها صلاة يومه، فتطير العصافير من فضاء ظلِّه إلى أوكار الجبال، وتمدُّ سوسنة عطرها عند قدميه. وعندما ينتهي من عمله، يتوجَّه إلى نبع قريب، فيأخذه على أرجوحة يده، ويسكب من فضَّته على عطش روحه.
ذات يوم، تأخَّر تحت شجرة عنَّاب، فحملتُ إليه طعاماً: علبة سردين، ورغيف خبز أسمر، وقليلاً من مربَّى التوت الذي تصنعه أمِّي.
بحثت عنه طويلاً، فوجدتُه نائماً على فراش أخضر، غطاؤه رفيف هداهد، وعلى يمينه رقصت فراشة.
نظرت إليه طويلاً، فاكتشفت أنَّه ملاكٌ يبتسم.
كان يركض وراء خيول بيضاء، وينحدر في أودية، ويمدُّ من رائحة التفَّاح وليمة لعرس.
رأيتُه في أحلامه غنيّاً، يأخذني معه إلى السوق، ويشتري ألعاباً ملوَّنة، وثياباً من حرير، وعُلبَةً فيها صيفٌ ومراكب صغيرة.
وتخيَّلتُ أنَّه يحملني أمام حانوت للعصير، فيطلب كوبين من الجلاَّب المغطَّى بالثلج، ويقول: إشربْ… لماذا نفكِّر في الغد؟! لماذا لا نبدو ثريَّين؟!
اقتربت منه لأوقظه، لكنَّ هدوءهُ أمسكني من ذراعي، فتراجعتُ، وجلستُ بعيداً عنه، كأنَّني خائفٌ على نومه أن ينتهي.
انتظرت ساعتين، فعضَّني الجوع. فتحتُ علبة السردين، وأكلتُها برغيف خبزه، ثمَّ أتيتُ على مربَّى التُّوت.
كنت حزيناً لأنَّه سيكون بدون طعام، واعتقدت أنَّه سيعاتبني… لكنَّه عندما أفاق، رمقني بنظرة ودٍّ، ورأى علبة السردين فارغة، فابتسم وسألني: هل أكلتَ جيِّداً؟
قلت له، وأنا مضطرب:
أكلتُ طعامَك.
قام من مكانه بخفَّة، فطار غبار الأرض عن ثوبِه القديم، وقال لي بعذوبة:
لستُ جائعاً… لم أجُع البتَّه!
وضعَ فأسه على سجَّادة كتفِه، وأحاطني بذراعه، فسرنا معاً في قلب الغابة، تحت غيمة من السحر والخشوع.
كان جائعاً كثيراً، فأخذ يغنِّي، وينظر إلى الأرض بعينين كئيبتين، كأنَّه يشتهي أن يأكل التراب.
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي – سيدني