عقدت ندوة في قاعة “فرنسوا باسيل” في جامعة القديس يوسف في بيروت، حول كتاب “طرابلس في عيون أبنائها والجوار”، بدعوة مشتركة من الجامعة – فرع طرابلس والشمال، “مؤسسة الطوارىء الثقافي” ودار “جروس برس ناشرون”، برعاية رئيس الجامعة في بيروت البروفسور الأب سليم دكاش اليسوعي وحضوره ومديرة الجامعة – فرع طرابلس والشمال فاديا علم الجميل، رئيسة المؤسسة مايا حبيب حافظ وفاعليات أكاديمية وعلمية وثقافية وتربوية واجتماعية واقتصادية وسياسية ومقامات دينية وروحية وجمعيات أهلية ومدنية من بيروت ومختلف المناطق.
توما
بعد النشيد الوطني، القى الأستاذ إبراهيم توما كلمة الافتتاح، قال فيها: “من العاصمة الثانية طرابلس أتينا إلى العاصمة الاولى بيروت لنقول: أنا طرابلس، انتم طرابلس وكلنا طرابلس، ومن مينائها أبحرت السفينة ورست في ميناء بيروت، ونزلت كوكبة من أدباء وشعراء وعلماء طرابلس وجوارها متجهة إلى ساحتها لتقول بأصوات شجية، نحن أغصان شجرة الأرز وصوت جريان نهر قاديشا ونهر أبو علي، ورائحة زيت زيتون الكورة وعبق خان الصابون في المدينة التاريخية والتراثي”.
دكاش
ثم القى راعي الندوة الأب دكاش كلمة، أشار فيها الى أن “بيروت العاصمة الأولى تستقبل في حضنها العاصمة الثانية طرابلس الفيحاء، واليوم بيروت محظوظة بأن تستقبل زميلتها الساحرة بعطرها وبأعيانها فتكبر بيروت ويزداد وعيها لذاتها ولرسالتها الخاصة وتشعر بأنها موجودة وشخصيتها قوية بقوة شخصية مدينة طرابلس التي تستضيفها”.
وقال: “نحتفل معا بصدور كتاب طرابلس بعيون أبنائها والجوار، الصادر عن دار جروس برس ناشرون، تحفة من الذكريات العذبة في كثير من الصفحات والمرة في القليل منها، شاكرين من القلب من كان في أساس هذه المبادرة المعطاء، ومن الفكر أيضا العلمين اللذين قلبا الأرض والسموات للإعداد لهذا الحدث الجامع اليوم، فزارتا خيرة الناس وحملت إليهم الدعوة وكانتا خير محاميتين داعيتين لهذا العمل الجبار ولهذا اللقاء حول طرابلس، عنيت بكلامي الأستاذة مايا حبيب رئيسة مؤسسة الطوارىء والأستاذة المديرة فاديا علم الجميل. إنهما يحملان طرابلس العيش معا طرابلس التي هي اختبار مشترك لحرية التعبير وحرية الإيمان وبناء الصرح الثقافي المتين، هي رسالة تاريخية للتعددية والعطاء”.
أضاف: “لن أغوص في طيات هذا الكتاب الذي فيه الكثير من الصفحات عن تاريخ طرابلس، لكن أطلق عليه تسمية “كتاب الوصايا” الذي يتضمن صرخة تاريخية ونابعة من تاريخ المدينة في وجه من يريد أن يلغي الحلم بأن للمدينة حقها في العيش بكرامة وأن تستعيد نسيجها القوي والمزدهر والعطر التعددي”، وقال: “صحيح أن بعض الأمور وربما البديهية تصبح شيئا من التاريخ وللتاريخ، إلا أنه عندما يقول لنا التاريخ أن صفحات عديدة من المدينة كتبها الحب والعاطفة والألم والقلق والصداقة، فيكبر الحلم ويقوى بأن تستعيد أجيال اليوم والغد المبادرة لاستنباط صفحة جديدة للعيش معا وللبناء معا والازدهار والنمو معا”.
حبيب
وإعتبرت رئيسة المؤسسة أن “الندوة هي جزء من برنامج مؤسسة الطوارىء الثقافي وهي خطوة نحو ابراز طرابلس كعاصمة ثقافية وإقتصادية للبنان وهي كلام الحنون تعطي ولا تأخذ، إذ ما من مرة خزلت أبنائها وهي على عكس الصورة السلبية السائدة وقد قمنا بتنظيم هذه الندوة لنعمل على تغيير الصورة النمطية للعاصمة الثانية”، داعية الجميع لـ”زيارة طرابلس لتظهر أمامكم على حقيقتها مثل ما وصفها كتاب “طرابلس في عيون أبنائها والجوار” وما تضمنه من شهادات حية، فهي تنقل روح المدينة وطيبة أهلها، إضافة الى مكانتها وأهميتها للشمال ولكل لبنان”، مشيرة الى أن “الكتاب يضيء على الحياة الطرابلسية التي بدأنا نفتقدها بسبب التغيير الديموغرافي الذي يرخي بتأثيراته على مجتمعنا “.
وختمت مشددة على أننا “لن نستسلم للبؤس لأن ثقافتنا هي ثقافة الحياة، وسنبقى في طرابلس ونقاوم بالعلم والثقافة والحضارة والعيش المشترك ولدينا دعوة لكل الشباب والشابات لمساعدتنا والانضمام الى مسيرتنا لنشجع المبادرات الثقافية في طرابلس وهكذا نبني المستقبل”.
جروس
والقى ناصر جروس كلمة، ضمنها خلاصة لمسيرته العلمية والاكاديمية والاجتماعية والمهنية في مختلف محطاتها، تمحورت حول موضوع الندوة، فأوضح أن “هاجس العلاقات الأخوية والمصالح المشتركة بين طرابلس وجوارها، بقي يلازمني طوال هذه السنين، بالرغم من الإتهامات الظالمة التي طالت المدينة العريقة الحضارية والعريقة في التاريخ من الإرهاب الى التعصب وصعوبة التعامل مع أهلها، ولكن ما لبث أن إنكشف زيف المروجين لها، وبات كل أبناء الوطن وخلال إنتفاضة 17 تشرين يصفون طرابلس بعروس الثورة ومدينة العيش الوطني الواحد والإنفتاح”.
ولفت الى أن “الذكريات الجميلة التي عشتها منذ مطلع شبابي والمودة التي سادت علاقتي بمجموعة من الأصدقاء، كانت الحوافز التي دفعتني الى التفكير في إصدار هذا الكتاب. فبدأت اتصالاتي لمعرفة اراء من عاشوا تلك المرحلة الذهبية او قرأوا او سمعوا عنها، فجاءت آراء الكل مرحبة بل متحمسة لهذا العمل. ومما زاد في قناعتي ما سمعته خلال عطلة فصل صيف العام المنصرم في أوتيل “بلمون” في إهدن الشمالية، حيث كانت فسحته الخارجية الواسعة تمتلئ بأبناء طرابلس وكانت أحاديثهم تنصب على ارتياحهم في قضاء فصل الصيف في هذه البلدة الشمالية التي حباها الله جمال الطبيعة وحسن الضيافة، إضافة الى احاديث ابناء المنطقة الذين يتذكرون طرابلس والأيام الجميلة التي قضوها في مدارسها وشوارعها ومقاهيها وجامعاتها في الفترة المتاخرة ودور السينما فيها والأعياد الدينية التي كانوا يتشاركون فيها والمؤسسسات الاقتصادية الناجحة التي بنوها”.
وختم شاكرا جامعة القديس يوسف “بشخص رئيسها الأب سليم دكاش والقيمين عليها والسيدة فاديا علم الجميل وجمعية الطوارئ بشخص رئيستها مايا حبيب حافظ، التي بذلت جهودا استثنائية لانجاح هذا اللقاء، ولن أنسى بالطبع أن أشكر المنتدين الذين يشاركوننا هذا اللقاء كما الشكر موصول لـ 55 كاتبا لمساهماتهم في إعداد مضامين هذا الكتاب والذين عبروا عن مشاعرهم ومشاهداتهم بكل صدق وأمانة والتي تزيدني إصرارا على متابعة المسيرة بالرغم من الظروف الصعية التي يمر بها لبنان وقطاع النشر فيه، والشكر الموصول للحاضرين كافة، آملا اللقاء في مناسبات اخرى متمنيا اللقاء وكذلك الشكر لحضوركم جميعا على أمل أن نلتقي في مناسبات أخرى ولبنان قد تعافى من محنته وعاد كما هو دائما لؤلؤة هذا الشرق”.
الطاولة المستديرة
وشهدت الندوة طاولة مستديرة أدارتها جودي الأسمر قليلات التي رافقت كل الندوات التي دارت حول الكتاب، تحدث فيها الوزير السابق النقيب رشيد درباس ونقيبة المحامين في طرابلس والشمال ماري تريز القوال فنيانوس.
درباس
وأشار النقيب درباس في كلمته الى أن “ما أملى علي هذه المقدمة، شعوري برهبة المغامرة التي زجني فيها الأخ ناصر جروس، بتكليفي للمرة الثالثة على التوالي خلال مدة قصيرة بالكتابة في الكتاب نفسه، “طرابلس بأقلام أبنائها والجوار”، فقد ارتفع منسوب خشيتي من أن يعصاني القلم، أو يتجعد حبره، أو يتبرم قائلا: من أين لي أن أزودك بجديد أنا الذي لم أترك من قبل في المسألة مزيدا لمستزيد؟ لذلك رحت أنشئ ما يليق برحلة الانتقال بين الفيحاء وأم الشرئع”.
وتوجه الى المنتدين قائلا: “بقيت لطرابلس مكتبة عصت الأنواء والأهواء، والصعوبات الأمنية والمالية، فصمد آل جروس وعزموا على تجسيد مصدر اسمهم برنين الكلمات على الورق، لتظل الأجراس من سمات سمائها التي تعقد فيها القباب والمآذن علاقاتها الأزلية وحديثها المتمادي. لكن مهلا، لا أفرح كثيرا بهذا، لأن المكتبة الجروسية نجت فيما مضت إلى نسيان عميق زميلاتها اللواتي كن يتخطرن في شوارع طرابلس ومنعطفاتها كالحور الغيد، فيتقاطر إليهن الشباب لخطب ودهن واستثمار رفوفهن، وقطف ما تيسر فيهن من ثمار، مجانا أو بالتقسيط المريح جدا. فلقد كان كل صاحب مكتبة مفكرا أو مثقفا أو شاعرا، لكن يد الإجرام والتعصب أردت الشاعر ميخائيل فرح الذي جعل من مكتبته سبيل ماء للعطاش، فجف الماء وتصحرت المكتبات، ثم تهاوت الصروح التعليمية من الفرير إلى الطليان فالأميركان، كأنما ضاق بأعين الحسدة ما كانت عليه طرابلس من تنوع ورونق”.
وختم: ” أما الحزن كل الحزن ففي البقاء على أسطوانة “طرابلس أفقر مدن شرق المتوسط”، لأنها غنية بمرافقها وأبنائها، ومدها وجزرها، وجزرها وذوب قاديشا في نهرها، وبساتين زيتونها وليمونها وعطرها ولكل من اتهمها بأنها قندهار، ومأوى التعصب والمتعصيبين أقول عودوا إلى التاريخ، فلقد كان المطران أنطون عبد أحد زعمائها، رغم قلة عدد الموارنة، كما لم يزل مار جرجس يصرع التنين على مداخل كنائسها. وقيل بأنه عندما سئل تشرشل عن سبب اختياره طرابلس، مصبا للنفط العراقي على ساحل المتوسط، أجاب:” لو وضعتم بطيخة في كركوك، لتدحرجت تلقائيا إلى طرابلس”. ويضاف إلى هذا أن الفيحاء أي الفسيحة، كانت ولا تزال تستقبل البطيخ المتدحرج من مختلف الحضارات والجنسيات، بل هي كما أكد آل جروس، تستقبل الأقلام المتدحرجة من أهلها والجوار إلى صفحات أوراقها الفيحاء”.
القوال
بدورها، قدمت النقيبة ماري تريز القوال فنيانوس شهادة عن طرابلس بتاريخها وحاضرها ومستقبلها، وقالت: “ملك مشاع للوطن كله، لأن فيها من قيم المواطنة والعيش الواحد ما تفتقر إليه نواح كثيرة من أرض لبنان. ولا تزال هذه الذاكرة رفيقتنا حتى اليوم. فلم تبرح شوارع المدينة وساحاتها، مأوى خطانا، في العمل والتسوق وبناء العلاقات الاجتماعية والمهنية والثقافية، مع شعور غامر بالانتماء إليها دونما حواجز مناطقية أو طائفية، أو هكذا أردنا أن نحفظها عن ظهر قلب”.
اضافت: “صحيح أن حربا أهلية مشؤومة التهب لظاها سحابة خمسة عشر عاما، وما زال جمرها خافتا تحت الرماد الطرابلسي، فلا يلبث بين الحين والآخر أن ينفجر مناوشات مفتعلة بين مواطنين على جبهتين متقابلتين من فقر مشترك، وتفجيرات إرهابية تطاول الآمنين والمصلين، وحوادث أمنية متفلتة في الأحياء والأسواق الداخلية، لكن المدينة في كل مفترق وطني تعبر عن حقيقة هويتها بأبهى تعبير ممكن”.
وقدمت شهادة أخرى للكتاب، “الذي اجتمعنا حوله، والذي يمثل برأيي مرجعا ثقافيا لاكتناه المدينة واقعا ومرتجى، بأعمق وأشمل ما تعنيه الثقافة. ويثبت ناشره الأستاذ ناصر جروس ودار جروس برس، أن رصد التاريخ والحاضر، بالإضافة إلى القيمة التوثيقية التي يحتويها، يشكل مفتاح الخطة الحقيقية للتنمية. فليس في قدرة أحد ان يتجاوز واقعه ما لم يفهمه أولا بأبعاده كلها. وهذا ما حرص الكتاب على تقديمه وإبرازه بأقلام كثيرة”.
شهادات ومداخلات
وتخلل الندوة شهادات لكل من ماريا حافظ وآلان درغام وغسان بكري وعدد من الشباب والشابات وطلاب لدى الجامعة اليسوعية سلطوا خلالها الأضواء الناصعة على مقومات القوة التي تمتلكها طرابلس والتي تستدعي تضافر جهود كل اللبنانيين من اجل العمل على إستثمارها وتطويرها والحفاظ على مكانتها الإقتصادية والثقافية والحضارية.
كما شهدت مداخلات عدة تقدمها مداخلة للوزير السابق طارق متري، رأى فيها أنه “من الصحيح أن طرابلس لم تصبح عاصمة لبنان الثانية بإختيارها لكنه صحيح أيضا أن أهلها تكيفوا بالتدرج مع لبننتها بل قبلوها وارتضوها. غير أن علاقة المدينة مع الدولة اللبنانية ظلت على قدر من الإزدواج. دخلت الدولة في أنسجتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية وبالوقت نفسه شكت المدينة من تجاهل الدولة لها وانحيازها ضدها”.
ورصد متري “التحولات الكثيرة التي جرت في طرابلس خلال الفترة المسماة ليبرالية في سوريا ولبنان، أي في العقود القليلة التي تلت الإستقلال. واستمرت خلال المرحلة التي سادت بها مجددا الأفكار القومية العربية وصولا إلى بدايات الحروب اللبنانية والملبننة. والتحولات المذكورة جاءت في مجملها وثيقة الصلة بلبنانية طرابلس ومدينيتها”، وقال: “لأسباب شتى، متصلة بالتاريخ الذي صنع هذه المدينية الفريدة بين اقرانها في شرق المتوسط، اعادت نسج علاقاتها بأقضية لبنان الشمال والداخل السوري حتى مدينة حمص ولم تعرف تناقضا حادا بين الأصالة العربية والإسلامية وبين الحداثة ولم تتعارض على نحو ظاهر الأمانة للتقليد والتطلع الى التجديد”.
وإعتبر متري أن “تطور المدينة في تاريخها الحديث، على صعد العمران والتربية والثقافة والعلاقات الإجتماعية والنشاط الاقتصادي، الى تعزيز انفتاح طرابلس وقدرتها على الاغتناء بالتنوع. وفد إليها الكثيرون وأقاموا فيها وصاروا جزءا منها. واستطاعت المدينة أن تحسن إستقبالهم وتيسر إنخراطهم في حيواتها حتى باتوا يشعرون أنها مدينتهم ويتعاملون معها ومع أولادها بدفع هذا الإحساس. واتيح لي في مدرستي وفي الحي الذي عشت فيه منذ ولادتي ان الاحظ قلة انشغال الطرابلسيين بمعرفة “أصل” الوافدين وتذكيرهم، او لا سمح الله تعييرهم، به. وكأن التمييز بين أولاد المدينة الضاربة جذورهم في تاريخها والمنتمين اليها حديثا ليس ذا شأن عظيم”.
وختم مداخلته مؤكدا أنه غني عن القول أن “كل ذلك تغير تدريجيا منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي وصرنا نتذكر ونستعين بالذاكرة على بؤس الحاضر، لا في طرابلس فحسب بل في كل لبنان”.