أخذ منّي الضجر كلّ مأخذ، فليس هناك شيء يسلّيني في هذه المدينة الرماديّة.
أعتقدت أنّ عندي مرضاً نفسيّاً خطيراً، وقال بعض الناس إنّني مصاب بالتوحّد، فقصدت طبيباً لأسأله عن حالي، وبعد أن فحصني وألقى عليّ أسئلة كثيرة، استنتجَ أنّني لست مصاباً بالتوحّد. وأراد أن يعرف منّي إذا كانت لديّ أسْرة وأصدقاء، فأجبته بأنّني مقطوع من شجرة… أمّا عن أصدقائي، فلديّ صديق واحد لا أعرف سواه منذ ولدت، هو نفسي.
تعجّب الطبيب من جوابي، وقال لي:
لا يصحّ ذلك، فعليك ان تجد أصدقاء… فالوحدة هي اليأس بعينه، وإذا طالت عزلتك، تتحوّل إلى حالة مرضيّة حادّة قد تؤدّي إلى الانتحار. .. أليست لديك هواية؟
قلت: لا أعرف إذا كان تنفّس الهواء من الهوايات… الشهيق والزفير هما الشيئان الوحيدان اللذان أتقنهما جيّداً.
قال: هواية لا تنفع. من الضروريّ أن تعمل بنصيحتي، وتجد مَن يكون إلى جانبك ويساعدك، ويكون وفيّاً لك… هل فهمت ما أعني؟ صديق لوقت الضيق… الدنيا مليئة بالناس الطيّبين… لا تيئس، فلديك متّسع من الوقت… والذين في سنّك لم يتزوّجوا بعد… عُد إليّ بعد أيّام، ولا شكّ في أنّك ستكون قد شفيت من عقدة الضجر التي تشكو منها.
خرجت من عند الطبيب، وضربت في الأصقاع، والشوارع، والمقاهي، حتّى وصلت إلى القفار. وفشلتُ فشلاً ذريعاً في العثور على صديق.
انقضى يوم ثمّ أيّام… حتّى تعبت وبكيت.
وقصدت الطبيب مجدّداً وأنا أجرّ قدميّ جرّاً من شدّة الإرهاق. وكانت ثيابي مغطّاة بالغبار، وشعري فيه رمل وعشب يابس… وعيناي محمرّتان كأنّني طالع من فرن. وما إن رآني وأنا في تلك الحال، حتّى عاجلني بالسؤال: ماذا بك؟ هل وجدت صديقاً؟
قلت له: وجدته. وقد صار لي صديقان الآن، هما نفسي ونفسي.
***
*جميل الدويهي: مشروع افكار اغترابية للادب الراقي
النهضة الاغترابية الثانية- تعدد الأنواع.