مهدية دحماني
السعودية
مُتيّمة بعشق أحواضها العطرية.. هاهي تَرشُّها قبل الشروق إلى البعيد تتبادل مع العطرة والسكب والريحانة رائحة السيل ونسائم الصبح الندية..يستقطبها من هناك تَوهُّج اللون الأحمر يعكسه أول شعاع يطل شرقا على صدر الجبل حيث تستقيم بقايا شجر البنّ على المدرجات الزراعية في انسجام أوتار قيثارة مع تغريد الطير..
أشجار البن تكاد تموت واقفة عند ظل الصِّدر لكنْ رغم احتضارها فما زالت تُزهِر قليلا في الربيع ، وحين يحلّ شتاء التهائم تجود ببعض حبيبات البُنّ الحمراء كبرياء ووفاء للأيدي التي زرعتها..شجرٌ يستذكر الزمن الذي لا يزال والوقت الذي لا يقاس عند صمت القرية.
غير قادرة على مقاومة ذلك شغفها بحبيبات البنّ الأرجوانية تسطع تحت رذاذ المطر ، تمتطي مركبتها اليدوية العتيقة ، تتوغل في الوادي نحو الصِّدر تقودها الدروب وتدفعها الطرقات نحو مجرى السيل لتحاكي أزمنة كل الشجر..
على حواف الوادي تستوقفها الأيكة العملاقة..(عرج السدرة) المُعمّرة حيث غرزت جذور أقدامها عند أول قدوم للحصن الحجري حيث وُلدت مواقيت الحب..
السماء عند وعدها مع الشروق المحجوب خلف الغيمة ، والغيمة الحبلى تعيد لها حبات من ماء السيل المتبخر ومعه تتناثر كل الذكريات عند تَجذُّر السدرة العملاقة ، عند منبتها وُلِد زمن من النهار والليل زمن الحب والعشرةِ..
ترفع عينيها إلى الحصن الحجريِ.. كان هنا مُصوِّبا رشاشه إلى السماء بطلقات أغشتْ ضياء القمر المنسحب عند السحر..طلقات ترحيب بنكهة من قشرة القمر..
تحية وتراحيب وغيمة تحيّيها الأيكة المعمرة لدى عبورها ، يطلقها ملأ السماء في أول لقاء بها..
هي في حرج من دمعتين تنسكبان من مقلتيه تنتهيان عند مبسمه المطلق فلا يقدرُ على لفظ كلمات الترحيب..
كانت أول مرة تصغي إلى عباراته التي نحتتْ مزامير كل التراحيب التي نَسجت لكرم الضيافة ملكوته..زمن ممتد ومؤقت محفوف بعطر السيل يردد : “مرحبا ألف” المتعثرة على لسانه الأزدي تحبسها دموع و تزفها ابتسامة رسمت تقاسيمه في كل لقاء بها إلى أن ارتقى إلى السماء..
هي في حرج من أمرها تُقبّل يده.. تُقبّل رأسه..تختار من ألقاب القَدْر والوقار ما يرتقي إلى علو قَدْره وتبجيله: (سِدِي.. عْزيزِي) وغير ذلك من أعراف ألقاب القدْر والاحترام في أرضها..هو ما زال قائما مُتَرنِّحا في استقامته يخونه حوضه المكسور.. يعتذر : اعذريني ساقي خانتني غبتُ عن الواجب.؟ أبشري بالعوَض..
فهمَتْ أنه يعتذر عن غيابه يوم زفافها..
يكمل الحديث رافعا عصاه في وجه رفيقها :
أنتِ في كنَفِي الآن..ما أنتِ بغريبة لو أخْطا علاك ما له إلا امْعَصا..
كان ينذر ويتوعد رفيقها بالوعد والوعيد..
مسح دموعه.. حدثها :
عسى أهْلش بخير؟ أذّن للفجر وعند الشروق راح يلوّح بعصاه نحو المدرجات الزراعية :
أبَشّرشْ سقينا البلاد أمس..جانا سيلٍ وشرْبن امْبَلَد) ..ردت عليه :
-في أرضنا نسقي من المطر والثلوج و بالسيل في أرض تشبه أرضكم هذي.. – أجل أرضكم مثل السراه تُسقي من اَمّطر..
من وحي الحب فهمتْ كلامَه بقلبها ، ثم راح يلوح إلى السدرة المعمّرة :
عندكم في جبالكم شجر كبير مثل هذي؟
عندكم شجر مثل امْبْراية (الجمّيز) ؟ وراح يحدثها عن كل الشجر في واديه وفي (تهامة)..حدثها عن العِتْم (الزيتون) ، وحدّثها عن السّدر وعن السّمْر والطلح..
حدَّثها عن كل الشجر في قريته ، وحدثَته عن الصنوبر وعن التين والزيتون والصفصاف والأرْز في أرضها..
لمْ يسألها عن أصلها ولا فصلها ولا عن أي شيء آخر.. حدثها عن الشجر ، وتبادلا حديثهما عند أول لقاء عن الشجر وعن السيل والمطر ، ومع حديثهما وُلدت فضاءات من الظّل في صمت القرية ، ووُلِد دهر من الحب بينهما عند منبت الشجر في واديه ، وعند الشروق بعد ثلاثة عقود من لقياهما عند ذات العرج شجرة السدر المُعمرة وشجر البُنّ الوفيّ الصامد رفعت يديها إلى السماء بالرحمات تعيدها مع تبخّر بقايا السيل يرتقي بالماء المتبخر.. _رحمك الله.. دعوات تعرج نحو السماء مع نثرات البخار الواعد بالودْق..