مسافات:الروح الافريقية ما بين “ايرماه وأتشيبي”

 

   منيرة مصباح

 

تناولت في الجزء الأول من البحث بدايات الاهتمام الغربي بالادب الافريقي والكتابة باللغة  الإنكليزية ومن ثم الانتقال لاستلهام التراث ومن ثم البحث عن أدوات تحديث الكتابة للحاق بركب الحداثة والمعاصرة وذلك من خلال مجموعة أعمال أدبية لعدد من الكتاب الافريقيين من بينهم سوينيكا وايرماه وغيرهم. ففي رواية شذرات للكاتب ايرماه تكلمت عن شخصية باكو الذي  يبقى يجاهد من اجل ابقاء قبضته على حالة التماسك رغم ما يدور حوله من فساد، ويفكر في ان دوره هذا له ما يوازيه في الثقافات الاخرى كما انه يناضل من اجل افكاره بواسطة كتابتها على الورق. وهو تمرين منعزل وعسير الفهم بالنسبة لاسرته التي ترى ان التعبير لا بد ان يكون متجها الى الخارج. بينما هو يظهر منفصلا عن موروثاته الافريقية، وعزلته التامة عن محيطه.

وسأتابع في الجزء الثاني من البحث الكتابة عن شخصية الجدة “نانا” التي تفتح الكتاب وتغلقه بهذيانها حول معنى الحياة والموت. وفي انتظارها للموت تحتل أرضا مسكونة بالاشباح، وهو رمز يوازي موقع شخصية”باكو” العائد الى وطنه بعد غياب طويل في الخارج.

“نانا” في الرواية هي التي تمثل حلقة الوصل مع العالم القديم، وقيمها هي نفس القيم التي تحملها ابنتهاومن خلالها تتطالب بحصتها في الأواني الفخارية. وهي تدرك ان هذا يتضمن التزاماتها المتمثلة بالطقوس لذلك تجهد نفسها من أجل الاحتفاظ بها. لكن الكاتب لا يعالج حنين الجدة لانه ليس بالامكان استعادة الماضي انما الاستفادة من الماضي لبناء المستقبل.

 

يقول “باكو”: “ان الاساطير جيدة هنا، ولكن ما فائدتها؟ … يختنق صوته ويتلاشى”.

ان الطقوس الموروثة بالنسبة للكاتب ليست سوى فخ استخدمه للحيلولة دون لجوء الفرد الى تحقيق استقلاله الخلاق. خاصة وان هذه الطقوس تمثل بالنسبة للجدة “نانا” في رواية شذرات، كلمات لها معنى تام لا ينقصها شيئ حيث توظفها والدة “باكو”، لتبرير الاستغلال الطفيلي والاستهلاك.

أما الجدة فهي مقتنعة بقدرتها على التفوق من خلال الحيلة، لكنها حين تكتشف ان الدائرة لم تكن مقطوعة في اي جزء من اجزائها، نتساءل مع الكاتب، كيف لها ان تُعلمك بان الدائرة محاصرة. هكذا شخصيتا باكو ونانا، نراهما منفصلين عن الزمان، فالعالم بالنسبة لهما سلسلة من التجارب غير المرتبطة ببعضها، ومن الافعال التي تفتقر الى الوحدة.

لقد تحقق دمار شخصية “باكو”، سحقته انقاض القيم المتفسخة القديمة والحديثة، كما اجبرته بقايا تركته المنبوذة على الصمت.

اما الجدة فنراها في نهاية الرواية، تسترجع وتستحضر كل ما عرفته خلال حياتها، لتقدم لنا دورة الحياة والتاريخ كاملة، فهي في سنها وعماها توازي “باكو” المغلوب على امره والمتقوقع في عزلته يقول:

“في العالم والحياة الضدان يحيطان بي، وعيناي لم تعودا نوافذ مشرعة من خلال جدار لحمي بل جزءا من هذه البشرة العمياء ذاتها، ولسوف تنغلق أذنيّ وكذلك الأمر مع روحي فيجسدي، عندها أغدو وحيدا تماما”.

هذه الكلمات تعطينا الرؤية المتشائمةوالسوداوية للكاتبالتي تطبع معظم أعماله، منها رواية ذوو الجمال لم يولدوا بعد، ولماذا نحن مبجلون الى هذا الحد.

 

ومهما قيل من نقد حول أعمال “ارماه” الروائية، فهو قد حدد وجهة النظر الرومنسية حول الثقافة الافريقية، وكشف عن المخاطر الموروثة لكاتب يؤكد على تجرده من الجماعة التي يعمل من أجلها. وتبقى اسهاماته في الرواية الافريقية، اسهامات رئيسية، حيث برز “واي كو ايرماه”بتكنيك خاص به وبوجهة نظر قائمة بحد ذاتها، كما استطاع ان يؤسس ببنائه الرمزي المتأني وباستعماله الدقيق للاستعارة والصورة والاسئلة الوجودية حول الذات والواقع، رواية افريقية تهتم بديمومة القيم في عالم فاسد.

لذلك يقول عنه جيرالد مور: “يتعين على الكاتب في افريقيا ان يوضح اغراضه امام مجتمع يرفض التسامح الرومنسي مع اولائك الذين يعزلون انفسهم عنه حتى لو كان تحت دعوى الموضوعية الخلاقة”.

غينوا اتشيبي (chinua Achebe)

الروح الافريقية التي تنبض بها رواية “الاشياء تتداعى” للروائي النيجيري “غينوااتشيبي”،(chinua Achebe)تجعلنا نرى كم هي قوية تلك الروح، التي تمجد الماضي من أجل مواجهة المستقبل. يقول أتشيبي “ان الشعوب الافريقية لم تسمع بالثقافة لاول مرة عن طريق الاوروبيين، بل هي تملك فلسفة عميقة جدا لها قيمتها وجمالها، وان لها شعرا، وفوق كل شيء لديها كرامة”.

لقد استطاع “أتشيبي” ان يوصل هذا المفهوم للوعي الغربي، وان يثبت بان الادب الجديد القادم من افريقيا هو سجل ونتاج لحضارة عميقة وعريقة الجذور، حاولت الثقافة الغربية طمسها خلال فترة استعمارها للقارة الافريقية.

من هذه النقطة نستطيع تأريخ بداية خلق الدافع العام لدى الكتّاب الافريقيين لتسجيل حقائق الحياة التي ضاعت وراء التفاصيل الهائلة للعادات البدائية عند شعوب هذه القارة.

 

غينوا اتشيبي في روايته يحكي قصة حياة مجتمع “الايبوا” وذلك قبل وصول الجمعيات التبشيرية البيضاء، وموظفي الحكومة، الى ذلك الجزء من افريقيا الذي تقطنه هذه الشعوب بكل ما تحمله من عادات وتقاليد وأساطير. ومع بداية انتشار الشائعات التي تعلن عن وجود الرجال البيض في مطلع الرواية، يستمر هذا الشعب بمتابعة حياته، حيث يبين لنا الكاتب ان هذا العالم الذي يعيش فيه تنبع مشاكله من داخله .

الشخصية الرئيسية في الرواية شاب ذوكبرياء شديد، طموح وقوي، يستمد سطوته جزئيا من خلال رغبته في ان يحيا بطريقة متحررة بعيدا عن روابط العائلة، لدرجة انه ينسى والده الضعيف الذي استخف به المجتمع. هذا هو “أوكوني” الذي يؤمن بقوة العنف، عكس والده “أنوكا” الذي يبدو في الروايةفاشلا لكنه يحب الموسيقىويحمل في أعماقه بعض الصفات الجيدةالتي يحاول طمسها، والتي ربما تكون ضرورية من أجل تحقيق القوة التي حققها ابنه للوصول الى هدفه. ويحاول الكاتب باستمرار من خلال السرد الكشف عن حب الأب “أنوكا” للموسيقى،فنراه يهرب دائما من الحرب ليجلس ويتمتع بسماع ايقاع الناي الخاص الذي يضفي لحنه مسحة من السعادة، واخرى من الحزن عليه.

ان شخصية الابن الذي لا يستطيع اظهار مشاعره، خوفا من ان يفسرها الاخرون بانها ضعف في الشخصية ،لا ينم عن القوة التي تنعكس حتى على أفرادأسرته، لكن ذلك يؤثر كثيرا على فهمه الخاص للموقف الصحيح، لدرجة العزلة عن اصدقائه واقاربه.

في هذه الرواية لا يهدف “أتشيبي” الى طرح قضية سيكولوجية السلالات، انما يريد الكاتب من خلال الايحاءات ان تكون بعضا من رؤيتةعلى الاحداث، حيث تمتد هذه الايحاءات لتشمل جميع شخصيات الرواية والتي لا يسمح لأيّ منها ان تغدو مجرد وسيلة من وسائل السرد فقط. فالروائي من خلال شخصية “أوكوني” يوحي بذكاء الى ان قوة بطله العدوانية، انما هي تزييف للقوة الحقيقية، طالما ان القوة البشرية تمتلك وجهان على حد سواء وهما مكملان لبعضهما تماما.

في الفصل الثاني من الرواية ينكشف موقف “أوكوني” عندما تقوم عرافة الكهوف والتلال والتي تعتبر المصدر الرئيسي للكشف عن المستقبل لدى ذلك الشعب، بان عبادة النساء هي السائدة في تلك القرى، والتي تحكمها كاهنة تدعى “أكبالا”.

هكذا يوضح “أتشيبي” ومن خلال الاستنباط وسيلته في تقديم عالمه، حيث لا توجد في الرواية اية محاولات لشرح المفردات الخاصة، والتي لا يعرفها سوى مجتمع “الايبوا”.

أما “أوكوني” فيصل توتره مداه عندما يقتل صبياكان قد تبناه وذلك بأمر أحد العرافين.

هنا يبدأ سوء طالع “أوكوني” فيشعر بغربته عن ابنه، تلك التي تذكرنا بغربته هو عن والده، رغم ايمانه العميق بانه لم يقم بمشاركة قتل الصبي الّا لان ذلك كان ضروريا وعادلا.

ومع بداية هذه المأساة تبدأ الاشياء تتداعى وتنهار، حين يوصلنا الكاتب الى الاحساس بأن الامور الضرورية والعادلة لا تتم بأسلوب عادل. فالاحساس بالكره يتعمق لدى ابن “أوكوني” باتجاه ابيه وقوته، فيتوجه الى القوة الروحية الجديدة المتمثلة في الكنيسة التبشيرية.

هنا يضع الابن مشاعره الخاصة فوق المسؤولية الاجتماعية المتمثلة بالعادات والتقاليد، ليكون هو النقيض لابيه، بعد وضوح الهدف وبعد تخليه عن الوحدة الاجتماعية.

 

هنا لا يقدم لنا الكاتب أفضلية في الموقف لدى الشخصيتين، لانه كما يقول: “لكل انسان زمانه”، انما يترك لنا ان نحدد هذا الموقف. لذلك نرى “اوكوني” في نهاية الرواية يُنْفى سبع سنين، للتكفير عن ذنبهفي قتل أحد رجال قبيلته، وعندما يعود من منفاه يجد ان الرجل الابيض قد أتمّ سيطرته واحكمها، فيبدأ باقناع عشيرته وشعبه بضرورة القتال من اجل البقاء، ويسير مع مجموعة من رفاقه الى مقر البعثة فيحرقها ومن ثمّيعتقل، لنراه ينتحر تحت ضغوط السجن بعد أدركه ان التآكل قد دخل في العمق، وانه أصبح وحيدا. هكذا نرى صراع ثلاثة أجيال في رواية في رواية “الأشياء تتداعى”لأتشيبي، وتكون نهاية “أوكوني” المؤلمة بالحكم عليه بيد من حديد، بسبب مزاجه العنيف، فهو لم يكن في اعماقه انسانا قاسيا، الّا ان حياته كانت محكومة بالخوف، الخوف من الفشل والضعف. لقد كانت حياته أعمق وأشد ألفة مع الخوف مما هي عليه مع الشر والسحر وقوى الطبيعة. كما ان خوفه كان أقوى من كل هذا، كان خوفا كامنا في اعماقه. انه خوفه من نفسه خشية ان يكتشف انه اصبح شبيها بأبيه.

ان محاولة القيام بالتعمق في داخل تجربة الماضي لهذا الشعب، هي التي جعلت رواية “الاشياء تتداعى” تستحوذ على الثقافة الغربية، حين مجدت الماضي بكل ما فيه من قيم وممارسات طقسية موروثة. لكن “أتشيبي” نفسه من خلال ذلك التعمق حاول استعادة كامل التجربة الانسانية دون محاولة خلق للكمال المزيف.

اترك رد