تصدر قريبًا الطبعة الثانية من “استراتيجيات الإقناع والتأثير في الخطاب السياسي العربي: البلاغة الأبوية والدينية عند السادات” للدكتور عماد عبد اللطيف، دار كنوز المعرفة، 2023.
مما جاء في من مقدمة الطبعة الثانية:
“في شتاء عام 2003، كتبتُ بيد مرتعشة خطة هذا الكتاب. لم يكن ارتعاش اليد مبعثه برودة الجو في نادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة حيث اعتدتُ أن أقضي نهاري كله، أقرأ وأكتب وأتأمل صفحة النهر الخالد. كان الارتعاش مبعثه قلة معرفتي بما أنوي الكتابة عنه، وثقتي بأنني سأحتاج إلى الكثير من سنوات العمل لأكتب ما يستحق أن يُقرأ. كانت ارتعاشة رجل قرر أن يتعلم العوم بأن يلقي بنفسه –على كَبر- في النهر العميق.
كُنتُ قد أنهيت للتو رسالة ماجستير قضيت خلالها أربع سنوات متفرغًا لقراءة التراث البلاغي العربي. أقضي عشر ساعات يوميًا في مكتبة الجامعة الأمريكية بالقاهرة، مفتونًا بكتابات أجدادي من البلاغيين العرب العظام. بعد أن أنهيت رسالة الماجستير، قلتُ لنفسي: لقد مكثتَ أربع سنوات في صحبة الماضي، ومن العدل أن تقضي مثلها في صحبة بلاغة الحاضر والمستقبل. وكالعادة كانت الحيرة هي محركي لاختيار موضوع بحثي. فمثلما كانت حيرتي إزاء سر تحول الضمائر في القرآن الكريم حافزي على دراسة الالتفات في الماجستير، كانت حيرتي أمام شعبية خطاب السادات بين بعض المصريين رغم سياساته المضرة بهم حافزي على اختيار دراسة خطبه في الدكتوراه. كنتُ أود أن أفهم كيف يتمكن السياسيون العرب من التلاعب بوعي شعوبهم؟ وكيف يستدرجونهم لدعم ما يتعارض مع مصالحهم؟ وكيف يصبح الخطاب السياسي جزءًا من عتاد القهر والاستبداد؟
حين أعود إلى خطة رسالة الدكتوراه التي سجَّلتُها صيف 2003، أدرك كم كنتُ طَموحًا وساذجًا في الآن نفسه. فقد تضمنت الخطة وعدًا بالكتابة عن كل ما لم يُكتب في الموضوع بعد. وكم كان هائلا حينها ذلك الذي لم يُكتب بعد! وكعادة مشرفي النبيل الدكتور عبدالحكيم راضي، فقد أعطاني حرية كتابة ما أريد، موقنًا أنني سأرسو في النهاية على أرض صلبة بعد معاناة التيه.
كانت الشهور التالية لتسجيل خطة الدكتوراه حرفيًا “زمن التيه”. فقد اكتشفتُ أن هناك عشرات المراجع المهمة الجديدة عليَّ كليًا، ولم يكن هذا هو التحدي الوحيد. كان متن خطب السادات نفسه يزيد عن عشرة آلاف صفحة. ولم أكن أدري كيف سأدرس حشد الظواهر التي وعدتُ بدراستها في خطتي، تطبيقًا على المدونة كاملة، فيما بدا أنه يحتاج إلى عمر كامل. علاوة على ذلك، فقد كان لزامًا عليَّ قراءة عشرات الكتب حول فترة سبعينيات القرن العشرين، بما فيها المذكرات الشخصية لسياسيين وإعلاميين كانوا ذوي صلة بالأحداث موضوع الخطب، أو بعملية كتابة الخطب نفسها. لكن التحدي الأكبر تعلق بمنظور الكتابة، ومنهجيتها. فلم أجد أطر تحليل مكتملة تمكنني من الإجابة عن أسئلتي البحثي بدقة، وكان لزامًا عليَّ تطويرها.
كان تعرفي أواخر 2003 على التحليل النقدي للخطاب نقطة نور في طريقي. وعلى الرغم من أنني لم ألتزم بإطار تحليلي معين، فإن المنظور العام الذي قدمه نورمان فيركلوف لتحليل الحدث الخطابي مثَّل مرجعية مفيدة لي. كما ساهمت بلورتي للأفكار الأساسية في بلاغة الجمهور في تشكُّل منظور البحث، وأطر تحليل الظواهر المدروسة. فقد طورتُ منظورًا نقديًا يجمع بين التحليل النقدي للخطاب ودراسة استجابات الجمهور المتلقي للنصوص على خلفية نقدية أيضًا. وطوَّرتُ إجراءات تحليل تنسجم مع طبيعة الظاهرتين اللتين أوليتهما العناية الأكبر؛ وهما الاستعارة والتناص.
كان تحديد الظواهر المدروسة في الخطبة أكثر الأمور إثارة لحيرتي. فهل أركز على الخصائص الأسلوبية والأدائية المميِّزة لخطب السادات أم أركز على دراسة ظواهر ممثِّلة لمستويات التحليل الصوتي والمعجمي والتركيبي والتداولي؟ هل أفحص ظواهر محدودة في الخطب كاملة، أم أقوم بتحليل شامل للظواهر في خطب محدودة؟ كانت أسئلتي البحثية دقيقة ومحددة، لكن تنوع السبل التي يمكن سلوكها للإجابة عنها سبب حيرة كبيرة. بعد شهور طويلة استقر أمري على أن أختار ظاهرتين أفحص من خلالهما متن الخطب كاملا، على أن أعطي بعض أهم خطب السادات في زمنه عناية خاصة بوساطة تحليل معمق. جاء اختياري لظاهرتي التضفير بين الخطابين الديني والسياسي واستعارة العائلة المصرية بسبب قدرتهما على الإجابة عن أسئلتي المتعلقة باستراتيجيات الإقناع التي استعملها السادات لحفز المصريين على مساندة قرارات تتحرك ضد مصالحهم”.