الكتابة الحديثة في افريقيا ، بدأ الاهتمام بها في القرن الماضي مع مطلع الستينات، حين عمل النقاد الغربيون في تناول أعمال عدد من الكتاب الافريقيين الذين انصبت كتاباتهم على معالجة اصالة اللغة والشكل السردي، حيث رؤوا في تلك الاصالة امكانية لتجديد الشكل الروائي واحياء للموروث الثقافي.وجاءت الكتابة الافريقية الحديثة باللغة الإنكليزية،وحملت فيها الموروثات الادبية الاوروبية التي لا نستطيع انكارها.
وقد اعترف كثير من الكتاب الافارقة بالتأثير الغربي على كتاباتهم منهم “شينوا اتشيبي” (chinua achebbe)الذي يعزو اثر كتاباته الى “جوزيف كونراد”، و”انغوكي واثينغو” (Ngugi wa thiong’o)الذي يعترف بأثر “ديفد لورنس” عليه، بينما يفيض شعر”كريستوفر أوكيغبو” (Chistopher Okigbo)بأثر “اليوت وعزرا باوند ووليم بتلر ييتس”، الى جانب الكتاب الاغريق. وهذا ما يُظهر الشعور الكلاسيكي في الكتابة الافريقية .
لكن الكاتب الافريقي عندما اكتشف ان عليه دورا مهما يجب ان يقوم به من خلال ثقافته، ومن خلال التعبير عن ضمير شعب، بدأ في تجديد الوعي لدى مواطنيه بهويتهم المتفردة، وذلك بالتأكيد على الكماليات الموروثة، وعلى القيم الفنية للمجتمع، رغم وعيه بمحدودية فنه في العالم الذي يصنعه، فأصبحت مادة الموضوع ذاتأهمية مما أدّى الى الاحساس بان الكتابة الأدبية تدور حول العالم الواقعي والخيالي معا.وهذا أدى بالتالي الى الافتراض ان الشكل ليس مهما امام دور الكاتب في ان يكون نزيها ازاء تجربته ومعتقداته.
ولم يمنع كثير من الأدباء الافريقيين دخول باب التجريب الخلّاق والمبدع في الاجناس الادبية الموروثة، مما ادى الى تنوع الانجاز الذي خلقته تلك العلاقة الخاصة والمزدوجة بين اللغة والثقافة. حيث أرى ان مهام الكاتب الأساسية كانت تتمثل في تأكيد سموِّ وجمال الثقافة التي تجاهلها او شوهها الكتاب و المؤرخون الغربيون.
ولا بد من الاشارة الى ذلك النقاش الذي ظهر بعد منتصف القرن الماضي، حول دور الكاتب في المجتمع الافريقي الحديث، حيث كانت قضية الكتابة باللغة الانكليزية موضع ذاك الحوار، وكيف تستطيع نسغ حياتها من قيم النضال من اجل الاستقلال.
وقد قادت هذه المُثل الى مفهوم جمالي أكَّد على الدافع للفن الافريقي الموروث، وعلى ان اللغة الانكليزية بأسلوب خاص، قادرة على استيعاب الاشكال الموروثة في الادب. كما ظهرت في تلك الفترة كتابات حملت الطابع الهجائي، منها رواية “اتشيبي” (Chinua Achebe)التي عبرت عن روح تلك الفترة.
وقد رفض النقاد الانكليز هذه الافكار والمثل الخاصة بالأدب الافريقي في البداية، حتى ان الناقد “جيرالد مور” (Gerald moore)قال أنه يستحيل نقل الشكل الشعري الأفريقي الى اللغة الانكليزية، مرتكزا على انه من الصعب ادخال انماط اللغة والايقاعات الافريقية على الانكليزية، كما يقول انه يتعين على الكاتب في افريقيا ان يوضح أغراضه أمام مجتمع يرفض كل أنواع التسامح الرومانسي مع اولئك الذين يعزلون أنفسهم عنه حتى لو كان ذلك تحت دعوى الموضوعية الخلاقة”.
هذه النقاشات حول هذا الموضوع أدّت الى نشوء تيارين رئيسيين في الكتابة :
الأول يبحث في ايجاد وسيلة لتطوير أدب مكتوب بالانكليزية يبني أسسه على المفاهيم الجمالية الموروثة، ويكون متجاوبا مع أشكالها وصيغها البنائية.
والثاني يتمثل في كتّاب يستلهمون الثقافة والصور والثيمات الموروثة في كتاباتهم ويطورونها لتوازي عصر الحداثة، وفي نقاد ينظرون الى عمل الكاتب نظرة متجردة، تحمل مفاهيم ما بعد الحداثة.
وقد ظهر التيار الثاني في الكتابة في جنوب افريقيا، حيث كان من روادها، “كين ثمبا”(can) themba). ومن الكتاب الذين اظهروا اهتماما في العالم الحديث نذكر”الكاتبة فلورا نوابا” (flora Nwapa) ويطلق عليها اسم “أم الحداثة” في الكتابة الأفريقية المعاصرة و”سيبريان ايكونسي”((cyprian ekwensi”وآيي كويّأرماه” Ayi kwei Armah))وغيرهم في وسط وشرق افريقيا.
(وول سويِنْكا Wole Soyinka)
قبل ان نبدأ بتناول اعمال عدد من كتاب افريقيا، علينا ان نشير لأعمال المبدع النيجيري وول سوينكا الحاصل على جائزة نوبل للآداب 1986، وهو الكاتب الذي شملت اعماله كافة الاجناس الادبية، من شعر ومسرح ورواية وابحاث. ولا نستطيع في هذا البحث ان ننسى قصيدته الاولى التي ظهرت في اكثر من مجموعة شعرية له، والتي بعنوان “محادثة تلفونية” حيث آلف فيها بشكل فريد وجذاب، بين روح النكتة والمرارة، والالتزام العميق بقضية الفرد في عالم يعشق لافتات اللون والعرق والسياسة. وقد ظهر سوينكا في هذه القصيدة بحساسية عالية، ازاء ظلال النغمات، واللكنة في الحوار، مما ادى به لان يكون ناجحا في كتابة الدراما ايضا.
لقد كانت الدرامافي غرب افريقيا ضعيفة الصلة بالكتابة، وكان معظم الكتاب يقدمون مسرحية واحدة بمشهد واحد. وكانت تتمثل المشكلة الرئيسية لديهم في صعوبة التوفيق بين عناصر التمثيل الموروثة، الاوروبية والافريقية.
وكان سونيكا اول من ادرك وجود فرصة لكنها تكمن في الصعوبة، لتطوير شكل مسرحي يستطيع فيه الحوار ان يستانف دوره العريق كعنصر حيوي مميز. لذلك جاء اسهامه متميزافي التكامل الحيوي والفعال بين الاسطورة الموروثة والتجريب في الاتجاهات المعاصرة. فاعماله تحمل امكانية التوليفالخلاق بين العناصر الموروثة والحديثة.
ففي مسرحية “الرقص في الغابات” نرى الطفل الراقص له جذوره في طفل الاسطورة المعروف “بابيكو”، وهو الطفل الذي لا يستطيع ان يجد الراحة، سواء في عالم الاحياء او في عالم الاموات. لذلك نراه يعود للولادة مرات عديدة، مما يسبب العذاب لامه التي لا تستطيع الحيلولة دون الحمل به، او النجاح في ابقائه حيا.وهذه الاسطورة التي تلقي الضوء على المشهد الاخير من المسرحية، ليست سوى نقطة لفعل درامي متواصل يقول سونيكا:
” اننا نؤكد على التوظيف الحساس لما اصبح متكاملا ضمن النسيج الثقافي للمجتمع أينما وحيثما كانفي مصطلح الطقوس، وذلك لبناء مجتمع جديدوصنع كتابات ثورية كما نأمل”.
ان ما قاله سونيكا يجعلنا نحدد بعض انجازاته من خلال مسرحية “الطريق” للتاكيد على هدف سونيكا الثوري، باستخدامه العناصر الموروثة، وهدفنا ليس فقط توضيح الاستمرارية بين الاشكال الطقسية للثقافة الموروثة واشكال التجربة المعاصرة، بل لتكوين اداة من خلال تفاعل هذه الاشكال، تستطيع بها تغيير وعي المجتمع بالتجربة التي يشترك بها هذا المجتمع.
ان النموذج الخلاق في المسرح الثوري، كما يقول سونيكا، ليس الاشباع الواعي ذاتيا لاي وهم ثوري، على اي مستوى له، سواء كان على المستوى الروحي او الثوري الاجتماعي. فنسيج الابداع، خاصة في الشكل الدرامي، يحدد الامكانيات الخلاقة للمجتمع، كما ان مايحدد شمولية ثقافة اي شعب من الشعوب،ليست الامكانيات التي يمكن تحديدها مباشرة او الملموسة، بل الامكانيات الموروثة للمجتمع، سياسية، فنية، وتكنولوجية.
ان عالم مسرحية الطريق في جوهرها، هو البحث الذي يقوم به البروفسورحول رمز، يستطيع ان يعّبر به عن معنى الموت في العالم الذي يعيش فيه، وأوّل مصطلحاته لهذا الرمز هو الكلمة. ونكتشف ان البروفسور هو واعظ أصابه العار بعد طرده من مجتمع ديني.
ان هدف سونيكا من المسرحية والذي يتعين علينا ان ننظر اليه في حال اقترابنا من البناء والصورة. فالرموز الخاصة بالواقع المعاصر هي الطريق، والموت قضاءا وقدرا، ووسائط النقل وعلامات المرور الارشادية، وهي تندمج بالمضامين الطقسية للرموز الموروثة، وذلك لخلق لغة تستطيع تماما ان تدرك اهمية الموت في الاطار العام لمجتمع سونيكاالحديث، كما تشير ايضا الى الابداع الخلاق لمجمل مشهد الثقافة في وجه الموت.
ان ما يفعله سونيكا في كتابته، هو جذب الناس الى متابعة سلسلة من الطقوس، تعبر عن معنى كامل للثقافة الافريقية، وعن وظيفة المادة الموروثة التي توغل جذورها في التجربة المعاصرة بين الايديولوجيات والجماعات المتناقضة.
(أيي كوِيي ايرماه Ayi kwi Armah)
ينطلق الكاتب الافريقي “اي كوي ايرماه” من طرح فلسفته الروائية في صراعه وتواصله مع مجتمعه، من مشكلة التكيف، تلك المرتبطة باحساس متزايد بالعبث الذاتي. وهذا ما يشعر به ابطاله ازاء نسيج الفساد الذي بدا بعد الاستقلال، بعالم يحيك فيه الاهداف الجديدة والقيم الذاتية.
وتبقى انظمة القيم الموروثة تلح في وجودها باشكال متغيرة كمصدر من مصادر الضغط على الفساد وعلى الاشكال السابقة. لذلك نرى ارماه يطرح قضية مهمة هي انه لا توجد سوى راحة نسبية في الماضي، وبالتالي فان عمله الروائي ينتمي الى الحاضر الملح الذي لا يمكن الهرب منه في افريقيا الحديثة . كما نلاحظ اهتمامه الكبير بالشخصيات التي ترفض المساومة، سواء كان ذلك في الخطر الذي يظهر من خلال الضغط الذي تمارسه الاسرة كما هو حاصل في رواية “ذوو الجمال لم يولدوا بعد”، او بالامال الخاصة بموروث نقش باشكال جديدة من المتطلبات الاجتماعية كما جاء في “الشذرات” او في الالتزام بالنضال كما هو حاصل في رواية “لماذا نحن مبجلون الى هذا الحد”.
ان شخصيات كوي ارماه الرئيسيين، يناضلون من اجل الاحتفاظ بقبضة واهية على حقيقة الفرد والمعنى الذاتي. ولعل هذا يجعلنا نرى ان الهوس الاوروبي هو الاساس في الرؤية الفردية، عند الشخصيات، وهو بالتالي رفض لمواجهة الحقائق السياسية. ومهما كانت مواقف ارماه الجمالية والسياسية من خلال ابطال اعماله، الذين ينتهي المطاف بهم الى الاذعان للامر الواقع، فان رواياته تطرح وجهة نظر قوية حول دور الكاتب المثقف في افريقيا الحديثة، وهي وجهة نظر تتحدى الوجود في دقتها وحيويتها.
ففي روايته شذرات يعالج شخصية الانسان في افريقيا الوسطى ذلك الحاضر في كل مكان والذي عاد الى بلده بعد انتهاء دراسته في الخارج. هنا يُبرز “ارماه” نمط من الصور المحددة، للغوص في المضامين الاجتماعية والفلسفية، فالبطل (باكو اوبينا) يناضل من اجل الحفاظ على كرامته كفنان، لدعم موقفه الموضوعي والمتجرد في عالم اصبح فيه الفنان موظفا حكوميا يعتمد على الاعانات الثقافية. فهو المتعلم في النخبة الجديدة والذي يتوقع منه الدفاع عن اسلوب مناسب للحياة، وعن الوفاء بالالتزامات التي احدثها التغير الجديد للقيم القديمة في الجماعات.
وعندما يدرك باكو هذا، يضطر تدريجيا، في صراعه، للتراجع من اجل التوفيق مع هذه المتطلبات. ومع ذلك يبقى يجاهد من اجل ابقاء قبضته على حالة التماسك، ويفكر في ان دوره هذا له ما يوازيه في الثقافات الاخرز كما انه يناضل من اجل افكاره بواسطة كتابتها على الورق. وهو تمرين منعزل وعسير الفهم بالنسبة لاسرته التي ترى ان التعبير لا بد ان يكون متجها الى الخارج. يقول في الرواية:
“يد تذهب ويد تجيئ، والعائد الى الوطن يجسد النموذج، فهو الشبح مجسدا يرجع ليعيش بين الرجالن شبح قوي ومفهوم لحد انه يتصرف كشبح له سطوته…… تقبل دور الشبح وتصرف وكانك في بيتك……… لا بد وان تكون حزام نقل للشحنة…… ليس صانعا بل وسيطا….صحيح ان دائرة الغنائم اصغر ولكن بالواقعية الموروثة في النظام فان القريبين لا يجدون غرابة فيها… انها الحياة .
ان شخصية باكو تتميز بمظهرين يدحهما كوي ارماه، وهما :
درجة انفصاله عن موروثاته الافريقية، وعزلته التامة عن معنى الطقوس التي تُؤدى عند استقباله اثناء عودته.
والثاني في التحليل السياسي والاقتصادي الذي يستخدمه الكاتب كاطار لروايته، حيث يبين عواقب النظام على الحياة الاقتصادية لافريقيا الوسطى.
لكن مع هذا، يبقى عند باكو، ذلك العذاب الذاتي وخيبة الامل المستمرة مع الفساد الموروث اقتصاديا وسياسيا لمجتمع مابعد الاستعمار. فالفاسدون في المجتمع الجديد، يصورهم ارماه كضحايا مكبوتة ومحبوسة داخل سلسلة من متطلبات العائلة والقرية والقبيلة، لذلك نراهم محرومون من توجيه قواهم لحل المشاكل العامة. ان وجهة نظر الكاتب في روايته شذرات، تجاه القيم الموروثة، لا تدل على رفضه لهذه القيم، لانه يدرك اهميتها ونزاهتها من خلال معالجته وطرحه لآراء ثلاثة اجيال، حيث يقع الاضطراب في وسطهم على الرغم من ان الجيل الاقدم والذي تمثله الجدة، يعترف في ان المصدر التاريخي يسبق ذلك بفترة اطول كثيرا من تاريخ تجارة العبيد.
” كان الناس يشطرون بزرتهم شطرين، ويحرضون احد الشطرين ضد الآخر، الجزء يبيع الجزء الآخر للقادمين من وراء الأفق، يشطرون ويشترون، ويربحون، ويصرفون…”
***
يتبع في الجزء الثاني من البحث.