لور غريّب… تجربة ثقافيّة ناشطة فاقت الخمسين عامًا

 

   أحمد بزون

 

كثيراً ما كانت لور غريب تضحك، لكنها لم تكن تحتمل هذا العالم.

لم أتصل بلور منذ شاهدتها تحمل عكازاً، ذلك أنني لا أحب أن أرى أصدقائي في لحظات ضعفهم، لحظات تبدأ فيها الحياة تجف في وجوههم، وتبداً ملامحهم التي أعرفها وآلفها جيداً تتراجع. قبل ذلك، كانت الجلسة مع لور ممتعة، تتفتق ضحكاً وحواراً ونميمة. وكذلك الاتصالات الهاتفية التي تكر فيها ضحكاتها، ويفلت لسانها من سلطة التحفظ، فتحكي من دون رقابة. لذا كنت أنتظر هذه المناسبات المؤنسة، عندما كان صوتها يلعلع في مقها أو في سماعة الهاتف.

لا أريد أن أتفجع بالكتابة عن رحيل لور، وهي لم يكن تريد ذلك، فقد بلغت من العمر 92 سنة، إنما أود أن أتذكر حياة امرأة في ثمانينيات عمرها، كانت تسبقني بحيويتها النادرة إلى صالات العرض، قافزة من صالة إلى أخرى لمتابعة الحركة التشكيلية، وأقول: “قافزة” لأنها لا تقبل أن تمشي ببطء كبار السن. وتعود مسرعة لتكتب مقالتها في جريدة “النهار”. كنت أتفاجأ كيف تشتعل امرأة بهذا العمر، وتحافظ على إصرارها وتمسكها بمهنة الكتابة، برغبة عارمة، هي الرغبة التي ما انقطعت يوماً بالنَفَس ذاته عن الرسم.

لم تكن لور ناقدة هادئة أو مسالمة، إنما كانت تبدي اهتماماً بما تكتب، وجرأة أن تقول ما تريد، فتلسع غير آبهة برد فعل الفنانين الذين تكتب عنهم. كانت كاتبة “شرسة” وقوية وملمة ومتابعة. نقلت تجربتها من “لوريون لوجور” إلى “النهار”، قالت لي مرة “كان صعباً عليّ الانتقال من الفرنسية إلى العربية”، لكن إصرارها غالب كل صعوبة. وهي، أساساً، منذ تفتح وعيها، وجدت نفسها بين الكتّاب والأدباء. وقد شاهدتُ صورتها مرة بين كبار شعراء وكتّاب مجلة “شعر”، وعندما سألتها عن علاقتها بهم، حدثتني قليلاً عن تلك المرحلة، وعن لقاءاتها بهؤلاء الكبار، على أمل أن نقيم جلسة خاصة تحدثني فيها عن تلك المرحلة، ولم تحصل.

منذ مرحلة مجلة “شعر”، وقبل أن تتعرف إلى زوجها الفنان الكبير أنطوان كرباج، كانت بدأت إرهاصاتها الفنية، في تجربة تفردت بها في الوسط الفني، وقد خسرها الوسط الفني منذ توقفت أصابعها عن حياكة تلك اللوحات الشبكية التي كانت تنطلق بها من الذاكرة وتطلق فيها مخيلتها النضرة. وكان دائماً يتجاذبها قطبان، اللهو والحكمة، فتؤسس لأشكالها المحكومة بالعفوية المطلقة في اتجاهين أيضاً؛ اختصارات تكتفي باكتمال المعنى أو القول او القصة، قبل أن تتعدى الرسم والخطوط والهندسيات العقلية إلى الكتابة النصية. فتجتمع تحت خيمة اللوحة مواضيع وأزمنة. ففي اللوحة الواحدة قد نجد طواطم من التاريخ وصوراً من الحاضر، وتبصرات في المستقبل. فالمساحة تتسع لزمن طويل، ولأفكار كثيرة، ولتوليفات مشهدية تتآلف وتتباين، تتداخل فيها المدينة والقرية، وطقوس العبادة والارتحال الروحاني، والطبيعة والناس والنصوص السالكة في كل اتجاه. واللوحة الواحدة عندها لا تشبه أختها، لأن عالم لور مليء بالأحداث والأفكار والسرد الذي لا حدود له. ولا بأس بأن يكون سردها أحياناً مجانيًّا محبباً لاهياً ولاعباً ما دامت اللوحة ملعبها الفسيح، وما دامت السخرية تختلط بالأحلام، وما دام عقلها متحرراً من أي سلطة.

من المحطات التي يمكن التوقف عندها في مسيرة لور غريب، معرضها المشترك مع ابنها مازن كرباج الذي أقيم في غاليري “جانين ربيز” بعد حرب تموز 2006 بسنة، وقد وزعا فيه كتابين تشكيليين؛ الأول للور بعنوان “33 يوماً”، والثاني لمازن بعنوان “بيروت.. تموز – آب 2006″، وقد أقيم المعرض تحت شعار “بيروت لن تبكي.. وبيروت في العينين”. كان مازن يختصر كأنه يبرق لحظة، فيقدم شكلاً مختصراً بنزق شاب مدلل وحر ولمّاح، ولور تكثف الشغل في المساحة، وتسرد قصة شديدة التركيب، وزاخرة بالشخصيات والعناصر والأفكار اللافتة للناظر. فالرسم أو الخط الغرافي في معرضهما لم يكن بطل المشهد الوحيد، إذ النص هو الآخر يشكل منافساً في جذب المشاهد، وإن كان مكملاً للرسم، يفيض عليه ويزيد، ويحتل الصورة البصرية، أو ينقص عنه ويكون عنصراً مساعداً لا أساساً.

كانت لور تحاول أن تنتصر على الحرب بالرسم، وتنتصر على عمرها بمشاركة شباب ابنها. فهي لم تكن تحتمل أن تكون عجوزاً. ومن يتصور أن تكون المرأة الثمانينية أكثر التصاقاً بالتكنولوجبا الحديثة، فتقيم لها موقعاً الكترونياً وصفحة على الفايسبوك، تتدفق منهما أعمالها. وقد كانت في حرب 2006 تنشر فيهما كل يوم لوحة. كأنما كانت تمسك الحدث وتعصره ليتحول إلى ألوان وخطوط. تعرف كيف تختصر وتخطف الإشارات والرموز، مرة بحس مؤلم، ومرة أخرى بسخرية تتأرجح بين سوداء وبيضاء. حتى لكأننا نشعر، لغزارة ما ترسم، بأنها تدون حياتها يوماً بيوم بالرسم، فتلك هي خواطرها وأشعارها البصرية، تتحرش دائماً بمخيلتها، تستنفرها وتوقظها متى شاءت، وأحياناً تستنزفها حتى آخر رمق. فالزمن بالنسبة إليها سلسلة رسوم تعيشها وتخطها، فلا تظاهرة بلا رسم، ولا انفجار، ولا حرب، ولا أزمة، ولا موقف، ولا لحظات جميلة.

ليس أقل من خمسين سنة كان عمر لور غريب الفني، عمر إنتاجها ومشاركتها في معارض محلية وعربية وأجنبية، حصدت فيها جوائز من متحف سرسق وبينالي الإسكندرية وبينالي باريس. بل يذكرنا عمرها الثقافي بتلك الأيام التي كانت فيها جزءاً من حركة ثقافية ناشطة، في مرافقتها لتجربة خميس “شعر” وخصوبة تلك المرحلة الثقافية في ستينيات القرن الماضي. ولم يكن عمرها الكتابي أقل من ذلك، فهي الناقدة التشكيلية التي كانت تهرب إلى ريشتها من قلمها، وتهرب من قلمها إلى ريشتها، كي تحتمل هذا العالم.

اترك رد