منيرة مصباح
للشعر لغة تستنطق الكثير من فهم الروح التاريخية للإنسان كما تستنطق الذاكرة والوجدان وتغوص في أعماق الخيال وتتفاعل مع البشر والكائنات والاحداث والواقع المكاني والزماني، ويتحقق ذلك حين يعي الشاعر بثقافته أصول التجربة الشعرية المرتبطة بعصرها.
ولّلغة العربية في المغرب العربي خصوصية، ربما تكون مختلفة نوعا ما عنها في المشرق العربي، وهي خصوصية قد تكون نابعة من الصراع مع الآخرين ومع لغتهم، كما أن لهذه اللغة استخداماتها، وأحيانا اشتقاقات أصولية قاموسيّة بدلالاتها. وعندما تفهم الكتابة الأدبية على انها ابداع تصبح نافذة لرؤيا أكثر أملا وصفاء ووضوحا.
لذلك فإنني أرى في كتاب تلاقي الأطراف للدكتور عبد العزيز المقالح، بحثا كبيرا، وجهدا عظيما، ينبع من إيمان بقضية التواصل الثقافي بين المشرق والمغرب، ذلك الذي يحمل حضارة إنسانية شاملة، تظهر عبر النصوص الابداعية التي يتناولها الباحث، وكل ذلك برموز تتساءل عن الوجود والتكوين منذ فجر التاريخ إلى اليوم.
واللغة العربية هي جزء من هذه الرموز، لذلك كان التساؤل دائما عبرها للوصول إلى حقائق التلاقي بين أطراف الثقافة العربية. وحين يقول الدكتور عبد العزيز المقالح، أن اللغة هي الهوية الأولى للمواطن، قبل أن تكون أداة التواصل أو وسيلة الابداع بما تحمله من طاقات وإشارات وامكانيات للتعبير، فإن ذلك هو شهادة من يبحث عن الجذور في هذا التواصل، مع مراعاة المتغيرات القائمة على كافة الأصعدة، والمؤثرة في الابداع العربي عبر نصوصه اللغوية. كما أن شهادة المقالح تعني أنه قد عايش المغرب العربي فكريا من خلال الاطلاع على أدبه وشعره، ومن خلال ثلاث نوافذ كبيرة تمثلت بالدكتور عبد الملك مرتاض من الجزائر، والدكتور محمد برادة والشاعر محمد بنيس من المغرب.
فالشاعر المقالح والشاعر محمد بنيس يحملان نفس الهموم ونفس القلق تجاه شرعية البحث عن المستقبل وشرعية تبني الحرية في مواجهات التحولات المستمرة على الشعر أمام محاولات التجريب في شق طريقهم الى الحداثة والمعاصرة ذلك مع اختلاف الأسلوب ومع كسر كل الأطواق والقوالب الشكلية لدى محمد بنيس.
ولعل أهم ما دفع الدكتور المقالح بالرحيل الفكري إلى المغرب في كتابه “تلاقي الأطراف”، هو تلك الجذور الباقية مع بعض مفكريه وأدبائه وشعرائه، كما شعوره بالانتماء إلى العصر بكل ما هو جاد وعميق، لذلك يقول: إن لغة هذه الأقطار لا تدخل في نطاق المحايدة، فكل ما يُكتب هناك من أدب، سواء كان قصة أم شعرا أم رواية أم دراسة، لا يحمل أي معاني محايدة. الكلمة في المغرب العربي تعبير صادق عن اهتمامات لصيقة بالواقع، وذلك من خلال القراءة الأولية لنماذج من أدب المغرب الكبير، ويضيف ان العمل الأدبي ينبغي أن يكون عملا أدبيا خاضعا للشروط الفنية التي تجعل منه أدبا، ومن ثم يمكن النظر إليه من زاوية أيديولوجية، وهذا عكس النظرة المشرقية التي تنظر إلى الأيديولوجيا أولا، تلك التي تشغل الجناح المشرقي من الوطن الكبير.
ان جهد المقالح في تلاقي الأطراف هو محاولة للرد على واقع الانقطاع، وعلى المحاولات المشبوهة للنوايا التي تتواطأ وتقترف إثم الفصل بين الأدب في المغرب والمشرق، فالإثنان يحملان نفس الهموم ونفس القلق المتزايد تجاه شرعية البحث عن المستقبل وشرعية تبني الحرية، ونفس المأزق في مواجهات التحولات المستمرة على صعيد الشعر والنثر، نفس الاندفاعة العاطفية نحو التجريب وتحدي المألوف. فهو في بحثه يطرح قضايا المغرب وبداية التساؤلات الجريئة، أما في الجزائر فهناك عودة الإبداع إلى أحضان اللغة الأم، وتونس في محاولات تأصيل الحداثة.
محمد بنيس “نخلة الحداثة”
ومن وجهة نظري ان محمد بنيس في شعره يفتح نافذة تحمل إحساس الفنان اليقظ وقلق المثقف المبدع، لذلك يشكل الرؤى المشرقة في طريق الحداثة والمعاصرة فيأتي شعره بقصائد مضيئة تفتح القلب للناس والحياة بكل ابعادها وحقائقها وصراعاتها وأزماتها التي تشكل جوهرها وتبني مضمونها الحيّ.
ففي ديوانه الأخير الذي حمل عنوان “يقظة الصمت” نشعر بنغم هامس وخافت وببناء متماسك يمتلئ بمضامين فلسفية عن الوجود والحياة والكون.
يقول محمد بنيس في قصيدة “الحب نهر الأبد”:
لا شيء غير جداول تتواصل في عرائها
هذا هو الحب أنا الذي يقول المِثل الى مِثله يسكن
انا الذي يقول أجزاء النفوس تتجانس، وفي الأنداد التوافق
هو الحب مزّاج النفوس المتشابهة، سرُّ الطوق فيك، سرُّ التبدد فيك
يا هذه النفس ذات العوالم الخفيفة
وأنت طيري عاليا وطيري في فضاء الوشم….
وأنت هكذا أيتها النفس غمامة تدفعها غمامة
أما المقالح فيتناول عمق الرؤية في الشعر المغربي المعاصر، من خلال الشاعر محمد بنيس، والذي يطلق عليه اسم “نخلة الحداثة”، ويتبعها بسؤال عن مسيرة قصيدة النثر في المغرب. كما يقدم قراءة في نماذج من القصة المغربية بين الشعرية والواقعية والفكر الأدبي، وفي النهاية قراءة في بيان الكتابة المغربية. كذلك فإن بحث الكاتب بالحداثة الشعرية، دفعه لعدم تقبل الرأي القائل بأن الموشحات قد ظهرت في مكان من المشرق العربي، حتى تلك الآراء اليمنية التي تزعم بأن الموشحات يمنية المنشأ، انتقلت إلى الأندلس عن طريق اليمنيين الذين حملوا أنماطا من فنونهم وآدابهم الشعبية، لكنه لا يستطيع تقبل مثل هذه الآراء، لأن الحقيقة أكبر من المشاعر الاقليمية، فالموقف من الفنون التعبيرية، كالموقف من الأحداث التاريخية العلمية، يقوم على البحث والموضوعية، لا على المشاعر والرغبات العاطفية الجامحة.
فالقصيدة المعاصرة تشبه النثر في ملامحها الخارجية، لكنها تحمل صياغة شعرية ذات طقوس وخصائص فنية ولغوية وتركيبية، لذلك يسميها النص الشعري، وهو الاسم الذي أطلقه قبل ذلك الشاعر أدونيس.
يتناول المقالح في هذا الكتاب نصوص الشاعر محمد بنيس، ويتساءل: هل الشاعر في شعره قد تكلم عن نفسه وثيابه، عن زملائه في المغرب العربي! ربما لكن بنيس في بحثه عن القصيدة، لا يبحث عن جواب نهائي إنما عن إمكانية، مجرد إمكانية للتجديد تضاف إلى الامكانيات التي بدأت مع الموشحات قبل أن تبدأ مع شعر المهجر أو مع شعر بدر شاكر السياب وزملائه.
الشاعر والحرية
ويرى المقالح ان الشاعر العربي مسكين، الحرية بالنسبة إليه ماتزال أرض الميعاد البعيدة. وأحلام الإنسان الحي قد اتجهت إلى الأرقى والأعظم من أشكال النمو والتغيير وأساليبهما، انه يحلم بأن يتحرر من الخوف حتى في التعبير. “صحراء على حافة الضوء” للشاعر محمد بنيس:
عين تؤاخي تيهها في لحظة الفجر القديم
هناك حيث الرمل ينشأ هاذيا ببياضه
حيث الأشعة راسيات.. والمدى غمر يحرره الكلام..
عيني تردد ما تشاء.. خطوط من جاؤوا ومن تركوا
بقايا الريح ساهرة بجمرتها..
على وطن توزّع بين أنقاض الغمام
أي فلات هذه التي.. أنفاسي تتشبث بها.. كما لو كانت..
مع سيارة مسرعة في شراييني…….. الخ
ان الدكتور عبد العزيز المقالح من خلال شعر محمد بنيس، يفتح نافذة كبيرة على المغرب العربي، باحثا عن كل ما يدخل في نطاق التجديد والتواصل في الفكر والابداع العربيين، ليقدم جهدا كبيرا وعميقا، بدأ معه من محاولته خلق علاقة مستمرة بين المشرق والمغرب، حتى ولو شابها الشك، لأن استمراريتها هي تأسيس لتقاليد جديدة نابعة من الثقة المتبادلة في الفكر وفي الابداع المعاصرين.
***
*الدكتور عبد العزيز المقالح شاعر واستاذ جامعي
توفّي في صنعاء نوفمبر 28- 2022