بقلم: الأديب مازن ح. عبّود
كان “سبع الغاب” يستفيق في الليل. وينام في النهار. يستوطن المنتجعات. ويقتات لحوم الحيوانات. فالدم لا يقتات إلا دماً. أرخى لغرائزه العنان. وما كان يسلم من شره أحد. وكانت نساء “كفرنسيان” تتلافى لقياه، مغبة التحرش بها. فقد قاطع الثياب الداخلية. كره الأعمال الجسدية. وما قدر له أن يطور كفاءآته الفكرية. فكان أن عاش في الهوان. مؤخراً، أضحى يكره الشيخوخة التي ما استطاع أن يغلبها.
فـ “عزرايل” راح يحوم من حوله. ويحصد رفاقه الواحد تلو الآخر. واليوم كان دور “حليحل” رفيق لعب الورق، والبارحة كان دور “كوكو” حبيب النساء بعد “جميل” خفيف الدم. صار تحديه الأكبر البقاء حياً أكثر من كل رفاقه. ها هو يتأمل في موكب جنازة “حليحل”. ويلوّح له من بعيد، قائلا: “غلبتك يا “حليحل”. عثر عليك عزرائيل قبلي. سلّم على الجميع”.
طلب إلى كنته توضيب أغراضه وحزم حقائبه لزوم التوجه إلى حيّ شعبي في بيروت، كي يزيح من درب “عزرائيل”. غادر منزله بعدما علّق على الباب “ليس هو ها هنا. فرّ إلى جهة مجهولة. ولن يعود”. كتب ما كتب وغادر كي يضلل “عزرائيل” الذي “لن ولن يتمكن في القريب العاجل من العثور عليه في زواريب الأشرفية. وكل يوم حياة مكسب”. كره الموت الذي يحلّ ضيفاً ثقيلا في شباط على كبار السن في كفرنسيان. فيقتلعهم.
عاينه “برهوم” يتسلل إلى سيارة ابنه “كوكو” ويتخفى في المقاعد الخلفية.
وغادرت السيارة التي تحمله بخفر “كفرنسيان”. إلا أنّ الموت بان له في “كفرعميان” المجاورة حيث سمع قرع جرس. وقد توقفت سيارته لبعض الوقت حتى مرّ المحفل. أما هو فقد أخفى وجهه وراء الجريدة. ولم يرد أن ينظر إلى التابوت كي لا تقع عيناه في عينيّ من يقبض على نفوس البشر.
وصل بيروت. ودخل إلى منزل كانت نوافذه تطل على نوافذ أخرى. فحتى الشمس لا تجد تلك الشقة الغارقة في غمرة بنايات الباطون. استمتع هناك كثيراً بمراقبة البنات اللواتي بالكاد يسترن أجسادهن ويتمايلن مع الريح في تلك الطرقات المكتظة والضيقة بانتظار وصول أصدقائهن. وكان ينظر اليهنّ قائلا، ومتحسراً: “لو أنّ الشباب يعود يوماً. إيه ما قصروا إلا بعد ما قصرّنا. يسلملي الجمال!!!”. ثمّ راح يبحث عن الشمس ويردد في نفسه، مسروراً: “إذا كانت الشمس تجد صعوبة في اختراق المكان، فكيف يخترقه الموت؟؟”.
وما كاد ينتهي من الاستمتاع بكل ذلك حتى سمع انفجاراً حطم زجاج الشبابيك. وللحال عاين عامود النار يطلع من تحت الأرض في الخارج، وأشلاء راحت تبان على التلفاز الذي وضع قيد العمل في الداخل. أبلغ أنّ شباناً قرروا الموت لزوم قضاء ليلة مع الحوريات. فصعق من الخبر. وهو مهووس بالجنس ومعروف بشهيته على النساء. دخل سريعاً الى المنزل الصغير. أطفأ الضوء. واختبأ تحت الحرام كهر خائف. وراح يفتكر في المضي إلى السماوات على طريقة الانتحاريين، إذا ما كان الجنس هناك مباحاً. لمَ لا وهو قد فقد جاذبيته وقدراته الجنسية منذ زمن على الأرض. كما أنه ما عاد قادرا على التهام العسل الصافي خوفاً من السكري الذي يعبد طريق عزرائيل. وهو إن تعلق بالحياة فعلى أمل استعادة الأمرين. فكل شيء عنده في الحياة كان يتمحور حول الجنس والأطعمة.
ونام “سبع الغاب” وحلم بأنه دخل غرفة نوم امرأة تغطت. ولمّا خلع ثيابه ودخل إلى سريرها. اكتشف أنّ طريدته كانت رجلا. فهجّ هارباً بعريه إلى الشارع. حيث رأى الجميع عريه. وصاروا يتهامسون. شعر “سبع الغاب” بالخجل حتى إنّ شواربه التي عصت الجاذبية قبلا، عادت فخضعت لقوانينها. استفاق من نومه وراح يركض في الشقة الصغيرة حتى سقط من شرفتها ومات.
أعيد “سبع الغاب” إلى “كفرنسيان” جثة هامدة. وقد تبين لهم أنّ السبع ما كان إلا هراً هرب من “كفرنسيان” كي يموت في أرض غريبة.
*******
برعاية غبطة السيّد يوحنا العاشر، بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، دعت دار “سائر المشرق” إلى حفل توقيع كتاب “قصص وأزمنة من أمكنة” للكاتب مازن ج. عبود، الخامسة مساء الجمعة في 28 فبراير 2014، في دير سيدة البلمند البطريركي. يعود ريع بيع الكتاب لدعم صندوق البطريركية المخصص لمساعدة المنكوبين.