نورة البقمي – السعودية
ذكريات
أخرج الميِّت.. تأمَّلَه.. رأى الدود يَنخَر في عظامه.. رائحتُه نَتِنة.. الدُّود في كلِّ مكان.. يتسلَّق عليه.. يملأ حجره وهو ينظر للميت ويبكي.
كان منظرُ الدود مرعبًا.. حاول الْتِهامَه وهو حيٌّ.. استيقظت روحه الملتاثة.. صرخت فيه.. صفعته على وجهه.. أمسكت بياقة ملابسه.. هزَّته بقوَّة: إلى متى هذا الحزن؟! اتَّقِ الله في نفسك.. أتعبتها وأتعبت مَن حَوْلَكَ.. هذه ليست حياةً.. تُغلق على نفسك في هذا السجن.. تَستعجِل الموت.. أنت ميِّت الآن، ويومًا ما ستكون مكانَه.. استمتع بحياتك.. لا تَمُتْ وأنت حيٌّ.
كلماتها أثَّرت في قلبه وعقله، كأنَّما استيقظ من غيبوبة.. أعاد الميِّتَ إلى قبره.. نفض ملابسه.. تساقطت الديدان التي كانت تتسلَّق عليه.. أخذ حمَّامًا دافئًا.. قدَّم طلب إجازة من عمله، وسافر في نُزهة.
فاقة
تتراصُّ أجسادهم المحشوَّة وأنفاسُهم المحشورة في غُرفة ضيِّقة.. بالكاد تستوعبهم وهم جُلوسٌ، فما بالكُ بهم نائمين متمدِّدين؟!
لا يملكون من الدنيا سوى هذا البيت بسقف يبكي عليهم في الشتاء، ويَبكُون منه في الصيف.. لا يملكون سوى حطام الدنيا.. بل حتى حطام الدنيا ربَّما لا يملكونها!!
في عزِّ الشتاء البارد يتراصُّون بجانب بعضهم البعض.. يستدفئون بأنفاسهم.. ينام والدهم بجوارهم وهو يدعو الله ألَّا تُمطر السماء.. يدعو الله أن تكون ليلةً هادئة.. يحدِّث الرياح أن اهدئي قليلاً.. لا تُغضبي بيتنا سريعَ الغضب والثَّوَران.. تتحرَّك جوانبه.. ترتعد كيَدَيْ رَجُل عجوز مصاب بالرعاش.. يستيقظ في ساعات الفجر الأولى.. يُشعل النار.. يُدفئ المياه ليغتسلوا بها عندما يستيقظون.. يُحضر ما تبقَّى من عشاء البارحة.. يسخِّن الحليب.. يَصبُّه في أكواب ليَبرَد قليلاً.. يتقافزون كعصافيرَ صغيرةٍ من أعشاشها.. يجتمعون حول الحليب وخُبز البارحة.. يَقضِمونه بسرعة.. يلتقطون حقائبهم، وينطلقون إلى مدارسهم.. الصغيرُ يسأل: أبي، متى ستأتي أمي؟ ستأتي اليوم.. صحيح؟
- إن شاء الله ستأتي.
كلَّ يوم تقول: إن شاء الله ستأتي!!ولم تأتِ!
صخب
لا تَعلَم كم استَغْرَقتْ من الوقت عند صديقتها.. ليلةٌ غير عاديَّة.. خرجت بتفكير مشوَّش.. كان عقلُها يَغُوص في كلِّ شيء، وأفكارُها كشبكة عنكبوتٍ شديدةِ التعقيد.. تعاني الوهن والضعف.
خرجت، أدارت محرِّك السيَّارة، شَعَرت أنها كريشةٍ في مَهَبِّ الريح.. السيَّارات تتأرجح أمامَها، والناسُ يتراقصون.. أحسَّت ببهجة وفرح عارم ونشاطٍ كبير، لا تعرف له سببًا.. لا تَعرف ماذا أكلت؟ تشعر بجوع غاشم، ولا تتذكَّر ماذا شَرِبت؟ تكاد تتقيَّأ.. ثَمَّةَ جَيْشٌ يدكُّ الْمَرِّيءَ، يحاول الخروج، وهي تحاول قَمعَه.. يَثُور، يُعلن التظاهر والمقاومة ، يقتحم السكونَ دَفْعةً واحدة.. سيَّارات الشرطة تقف، تأخذ المعلوماتِ.. تبدو في حالة غيرِ طبيعية.. اصطدامُها عنيف.. لا تتحرَّك.. كانت جيوش المرِّيء تتقافز فرِحةً وتتراقص مع كُريَّات الدم.. كانت ليلةً صاخبة كما وَعَدتها صديقتها!!