رجل أكلته العثة (قصة قصيرة)   

 

 

 

     فاطمة الدوسري – السعودية

 

 

تسمَّرت عيناي على جانب الطريق! التصق وجهي بزجاج النافذة مباشرة.

الحافلة تسير بسرعة متوسطة.

الساعة العاشرة صباحًا كل شيء من حولي متورم.

حرارة الشمس لا تتيح لبرودة المكيف أن تحدث أثرها الرجل الذي بجواري يتجشأ بينما يدي تتلمس طريقها داخل كيس البقالة نحو تصبيرة جبنة؛ أسحبها بسرعة لم يعد لديَّ شهية.

احتَضِن الكيس، وأُمعن النظر في الأشياء المسرعة نحو الخلف.

أُنصت لصدى كلمات زوجتي داخل رأسي:

-أريد أن أعرف فائدة واحدة من وجودك بيننا؟ اتعبتني مع تعب الحياة!

أنكمش داخل المقعد، وأنسلخ عما حولي إلى عالم آخر بلا بوابات.

تشابكت خطوط عمري الخمسة والستين، وتقاطعت مع تلك الكلمة التي مازالت تحفر الوجع في قيعان روحي منذ الطفولة.

في العاشرة من عمري أوصلني والدي للدكان لأشتري أدوات للنظافة. قبل أن أصل توقفت طويلا، وأنا أشاهد صبية يتعاركون. أصابني حجر في رأسي من حيث لا أعلم. أحدث جرحا كبيرا فيه فقدت الوعي، وحملوني للمنزل. بعد أن أفقتُ لم أجد النقود، ومنذ ذلك اليوم! ووالدي يلقبني “بالخبل”.

أكبر! وخيباتي تكبر.

تلك الكلمة تكبر كلما أُعيدت على مسامعي! أثور في داخلي.

يكبر الوجع، واتعثر في حياتي. لم أتجاوز الثانوية.

لا أذكر أنني تجرأت في يومٍ ووضعت عيني في عين أبي أو أحد من معلمي حتى إخوتي الكبار! أراوغ بنظراتي هنا وهناك حتى تنتهي المحادثة، وأتنفس الصعداء ثم أنصرف لشأني.

أمي فقط تسمح لصراخي أن يتجاوز مسامعها إلى الأواني، والأبواب. تصمت حتى تهدأ عاصفتي ثم تنصرف وهي تدعو لي.

في إحدى ثورات غضبي حضر والدي! لم أره وسط عاصفة شتائمي لأمي “آه يا أمي”

صفعني وكاد يطردني من المنزل إلا أنها حالت بينه، وبين ما أراد.

جميع إخوتي متفوقون لايوجد بيننا بنت. خمسة أنا النكرة الوحيدة فيهم.

أذكر مرة: أنني سرقت مخدة أخي لأنام عليها؛ عدة أيام قبل أن تكتشف فعلتي لكنني لم أصبح ذكيًا، ولا هادئا.

ومرة ارتديت طاقية وغترة أخي؛ وأنا ذاهب للاختبار! إلا أن حال درجاتي لم يتعدل.

نجحت وساطة والدي لي لأحصل على وظيفة إدارية في الدائرة التي يعمل بها. التصقت بالكرسي عشرين عاما دون حراك لا أطالب بشيء؛ لا أناقش حتى كثر البصاق في داخلي.

زوجني والدي من ابنة صديقه “المعلمة”.

بعد أن لمع صورتي. جميع ماقاله حقيقي فأنا مطيع، وهادئ، وبلا أصدقاء.

شعرت بالنشوة، واشرأب عنقي، وهو يقول لوالد العروس: ولدي “رجال” مالبثت هذه الكلمات أن ارتدت شظايا متناثرة في داخلي، وأنا أسمعه يقول لأمي “إن شاء الله يزوجون هالخبل، ونتقي شره. بنتهم طيبة”.

تزوجت! مرت الأيام، والسنون.

لا أفعل شيئا سوى تهزئتها، وكيل الشتائم لها بسبب أو بدون تتكدس الفراغات في حياتي.

أضعف عندما تثور زوجتي في وجهي، وتشكو عدم قدرتها على مواجهة ظروف الحياة بلا سند.

تستحث نخوتي تبحث عن رجولتي التي حصرتها في الذهاب لعملي، وملء البيت بصراخ طفل جديد، وثورات رجل بائس لا يستطيع تحريك نفسه.

في الأونة الأخيرة: باتت تهددني بمغادرة المنزل الذي هو ملكها، وتتركه لي بعد أن فرغ بنا.

حتى الآن! لا أعلم متى غادر الأبناء، وكيف؟.

لم تعد تحتمل نزقي الدائم، وكلماتي الجارحة.

قبل يومين! ذكرتني : أن هذه السيارة التي بعتها دون علمها هي السادسة التي ساعدتني في تسديد قيمتها.

تغيرتْ كثيرًا عليَّ ؛ كانت تصفح عن زلاتي: بمجرد اعتذار مبطن عن أي خطأ ارتكبه. حتى عندما خطبت عليها أخرى ثم تراجعت لخوفي أنني لن أجد مثلها سامحتني رغم اتهامي لها بالتقصير.

اليوم! وصلتني رسالة من المحكمة طلب خلع.تقاصر مدى الحياة في عيني، وحمولة سنين تراكمت على ظهري.

حاولت معها بكيت، لم ترحم انكساري.

هل هذا من أجل أن بصقت في وجهها عفن روحي المعتلة ؟! بعد أن عاتبتني على بيع السيارة.

قالت: تعبت منك أغرب عن وجهي لأعيش الحياة.

أدور منذ الصباح من حافلة إلى حافلة أرقب الناس، والشوارع، وتمايز البشر، والأطفال.

لم أشعر بطفولة أبنائي، ولا مراهقتهم، ولا…. كنت منشغلا بإثبات رجولتي الضائعة.  فعلا لم أكن.

في المساء أقف على عتبة المنزل!  اليوم الجمعة أصوات الأحفاد في الحديقة.

نعم اليوم اجتماعهم والآن وقت العشاء.

تُرى من يجلس في مقعدي الآن؟  تراءت لي الوجوه فتحت الباب استجمعت بقايا شجاعة مسن منهك.

تحلق الجميع حول المائدة ! مقعدي خالٍ الوجوه مبتسمة بحثت عن وجهها؛ رفعت رأسها نحوي على صوت شهقات الأبناء ثم نظرتْ نحوهم !

-لقد قلت لكم : سيعود.

اترك رد