حسن صعب، أنت في ضمير لبنان وفي عقول أبنائه

 

 

 

   هديل & سيرين صعب

 

‏ماذا نكتب على شاهد ضريح جدي المفكر الراحل الدكتور حسن صعب؟

‏هنا يرقد من زرع الارض كلاماً على فوائد الانماء، وكدس اخلاصاً وطنية فردوسية في أطنان من الورق ، ‏وكتب وصفات لكل أمراض العصر، وناقش وقارع وأرسل مذكرات واصدر توصيات وحضر مؤتمرات وأسس هيئات وجمعيات “في سن الرابعة عشرة فقط أسس جدنا حسن صعب جمعية متخرجي مدرسة ابي بكر الصديق ، وفي السن المبكرة ذاتها يرئس ايضاً تحرير مجلة مدرسة عمر الفاروق في بيروت” وشارك في لقاءات لبنانية وعربية واسلامية و دولية.

مرحلة الطفولة

ولد جدي عام 1922 وحيدا من زواج أبيه وأمه القصير العمر. فوالده حسن صعب الذي حمل اسمه توفي قبل ولادته بثلاثة اشهر، وكان عائدا من مصر بطريق البحر فدفن في فلسطين، ووالدته حفصة نعماني. وكانت جدته هند نعماني مربيته الاولى وهو رضيع. ثم تعهدته أخته منتهى دوغان.

‏سيرة حياته منذ طفولته ترسم صورة الانسان العصامي المكافح.

بدأ دراسته في ابتدائية أبي بكر الصديق ، من مدارس جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية في ‏بيروت ، وكان يعمل أحياناً منذ كان في الثانية عشرة ليؤمن دخلا اضافيا.

‏الدراسة في الكلية الشرعية ثم في القاهرة

‏عام 1935 اختار المفتي الشيخ محمد توفيق خالد مجموعة من طلبة المقاصد للدراسة في الكلية الشرعية في بيروت (المعروفة بذكرى خالد والحوت) (عرفت لاحقا بثانوية أزهر لبنان) وضمت الى حسن صعب ، محمد البعلبكي، بهيج عثمان ، رمضان لاوند، شفيق يموت ، محي الدين العربي العزوري، عبد الله المغربل ، زين العابدين عيتاني، ابراهيم نحاس، ابراهيم زين، رؤوف كزكزك (من حماه). أحمد يوسف حمود، محي الدين خالد وعباس ‏خليفة.

‏ثم اختار بعد سنتين دفعة ثانية أبرز من فيها حسن خالد (مفتي الجمهورية اللبنانية لاحقا) ‏سهيل ادريس، طه الولي ، عبد الحفيظ سلام ومختار الجندي. بعض هؤلاء التلامذة انتقل الى الدراسة المدنية باكرا كمحمد البعلبكي الذي تابع دراسته في الجامعة الاميركية في بيروت. والبعض الآخر انتقل ال الازهر الشريف في القاهرة، ثم انتقل الى كلية الآداب بجامعة القاهرة ومنهم حسن صعب وبهيج عثمان حيث نال شهادة الليسانس عام 1942.

‏في جامعة القاهرة كان حسن صعب لولب الحركات الطالبية وقائد المظاهرات المطالبة بالاستقلال والحرية. وعندما قاد تظاهرات الترحيب بأول وفد استقلالي لبناني يزور القاهرة برئاسة رياض الصلح عام 1943 ، طلب منه رياض العودة الى لبنان للالتحاق بوزارة الخارجية.

المرحلة الدبلوماسية الاولى 1944 – 1960

وفي طريق عودته برا ال بيروت اعتقلته السلطات البريطانية في فلسطين عقابا على نضاله الطالبي العربي في مصر. و لم يفرج عنه الا بعد ضغوط كبيرة مارسها أصدقاؤه في بيروت. بدأ حياته الدبلوماسية مع أول مباراة في وزارة الخارجية عام 1944 فألحق بمفوضية لبنان في باريس عامي 1945 – 1946 ضمن البعثة الدبلوماسية التي يرأسها أحمد الداعوق، ثم كنائب قنصل في اسطنبول ( 1946 – 1947)، فرئيس لدائرتي الصحافة الثقافية في الادارة المركزية لوزارة الخارجية اللبنانية (1947 – 1950) ثم عين سكرتيرا للسفارة اللبنانية في واشنطن وقائما بالاعمال بالوكالة (1950 – 1956) وكان السفير يومها، شارل مالك. وفي واشنطن أنهى دراساته العليا ونال الدكتوراه في علم السياسة عام 1956 من جامعة جورج تاون.

‏وعاد الى الادارة المركزية لوزارة الخارجية عام 1956 ليصبح مستشارا ومديرا للشؤون السياسية بالوكالة. عام 1957 وكان استاذا في الجامعة الاميركية في بيروت، تعرف الى نعمت حبيب غندور، فتزوجها، وانجب منها ولداه حسان ومروان. وأسس عام 1958 الجمعية اللبنانية للعلوم السياسية وكان أول رئيس لها.

‏استقال من وزارة الخارجية عام 1960 ليخوض معترك الحياة السياسية العملية بعد أن درس علم السياسة في مختلف الجامعات في لبنان. وكانت تجربة انتخابات دائرة بيروت الثانية مريرة بالنسبة له.

فالبلاد كانت خارجة من أحداث 1958 تعيش مناخاتها السياسية المتطرفة وكان الفوز في معظم مناطق لبنان لرموز ما عرف “بالثورة” و“الثورة المضادة” . وحورب الدبلوماسي المثقف والعصامي ابن مدارس المقاصد والازهر الشريف بأنه غربي الميول السياسية. والحقيقة أنه كان منفتحا ومطلعا على الثقافة الغربية مع التزام بجذوره الثقافية العربية – الاسلامية، ومع التزام بتوازن دقيق يجمع بين القومية العربية ‏والوطنية اللبناية بصيغة كامل لا تناقض.

المرحلة الدبلوماسية الثانية 1961 – 1964

عاد الى العمل الدبلوماسي عام 1961 كمستشار ثقافي لبناني في أميركا الشمالية. وفي الفترة بين 1961 و 1964 قام حسن صعب بنشاط خارق زار جميع الولايات الاميركية بالاضافة الى كندا، وألقى محاضرات في مئة وثمان وعشرين جامعة تناولت مختلف القضايا ‏اللبنانية والعربية مع تركيز خاص على القضية الفلسطينية والتواصل الاسلامي المسيحي. كما اتصل شخصيا بكل طالب لبناني في الولايات المتحدة وكندا حاثا إياه على العودة ‏الى الوطن.

بيروت اولاً واخيراً مرحلة العطاء الكبير 1964 – 1990

‏كان هوى حسن صعب يبقى في لبنان ، في العاصمة بيروت، وفي منطقة رمل الظريف – الزيدانية بشكل خاص. فاتخذ عام 1964 قرار الاستقرار النهائي في بيروت. استقال من السلك الدبلوماسي نهائيا وانصرف الى التدريس الجامعي والكتابة. وأسس مع زكي مزبودي وشارل رزق ” ندوة الدراسات الانمائية” التي قام لها الجزء الأكبر من حياته وأطلق مع رفاقه، ومن خلالها، بداية الوعي الانمائي، وضرورة تحقيق ثورة انمائية أرادها ‏شاملة وفي مختلف الحقول. ربع القرن الاخير من حياة حسن صعب وفي بيروت وخارجها تميز بالعطاء اللامحدود. تدريس في الجامعات : اللبنانية والقديس يوسف والروح القدس في الكسليك والجامعة الاميركية والاكاديمية اللبناية والمدرسة الحربية بالاضافة الى المعاهد العليا في القاهرة وجامعة الكويت وجامعة الرياض فضلا عن جامعة اوتاوا في الولايات المتحدة الاميركية. وعمادة لكلية الاعلام والتوثيق في الجامعة اللبناية، وتأسيس لهيئة التعبئة الوطنية في بيروت اثر نكسة حزيران 1967، والتي نشط فيها برئاسته نخبة المثقفين والقياديين اللبنانيين في مختلف الحقول في تجربة تعبوية فريدة.

واذا كان البعض قد انتقد تلك التجربة في حينه واعتبرها تنفيسا للطاقات التي تفجرت ما بعد النكسة ، ‏فان الاكثرية اعتبرتها تعبئة حقيقية في مجال ايجابي، وان كان نظريا، لطاقات لم يكن متاحا لها أصلا ان تشارك في الحرب على الجبهات. وأبرز ما فيها أنها شملت مختلف الاتجاهات السياسية في عمل موحد من أجل قضية قومية : قضية الصراع العربي – الاسرائيلي ومن منطلق يعتبر الصراع حضاريا بالدرجة الأولى ويعمل على هذا الاساس .

‏وتحقيق لمشروع قانون انتخابي موحد شاركت في وضعه جميع الاحزاب اللبنانية عام 1973 بعد اجتماعات متواصلة استمرت عدة أشهر في ندوة الدراسات الانمائية وهو ما اعتبر في حينه انجازا كبيرا لا يستطيع تحقيقه سوى حسن صعب.

‏وتنظيم أو ترؤس او مشاركة في عشرات المؤتمرات والندوات والمحاضرات بينها 14 مؤتمراً انمائياً في بيروت وحدها بين اعوام 1964 و 1990 فضلا عن تأسيس معهد الانماء العربي في طرابلس الغرب 1972. وعشرات المؤلفات في مختلف الحقول ومئات المحاضرات في مختلف بقاع الارض.

‏وانجاز لبناني تاريخي لحسن صعب لعله انجازه الاكبر كما يقول الرئيس سليم الحص وهو ادخال لبنان في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الكسو) بعد غياب لبناني استمر عشرين عاماً ، ‏وانتخابه عضوا في مجلسها التنفيذي ونائبا لرئيس مؤتمرها العام سنة 1985، قبل خمس سنوات من اقرار مجلسي الوزراء والنواب لانضمام لبنان للمنظمة المذكورة. وكان يوم الثاني والعشرين من تموز 1990 ينوي السفر الى تونس للشماركة في اجتماع المجلس التنفيذي وليزف للعرب بشرى قرار مجلس الوزراء بتصديق انضمام لبنان الى “الكسو” عندما فاجأته النوبة القلبية الاخيرة.

حسن صعب في مدرسته السياسية العقلانية كان يقول دائماً و يكتب ان استقلال لبنان الحقيقي هو في انمائه وتطويره من دولة متخلفة الى دولة متقدمة. آمن بالحوار وبالتوحيد وعمل من اجلهما.

نبذ التباعد والتقسيم وناضل ضدهما. آمن بلبنان الحرية والفكر والانفتاح ونبذ العبودية والكبت والتعصب.

حسن صعب ترك لنا نتاجاً غزيراً و مكتبة غنية تقدر بعشرات الكتب والمحاضرات والمقالات تشهد لفكره المستنير ولجرأته النادرة ولعقلانيته المبدعة.

مات جدي حسن صعب قبل أن يرى ثمرات بعض ما كافح وعمل من اجله. أنصفه علمه ولم تنصفه السياسة. والحديث الشريف يقول : “اذا مات ابن آدم انقطع ذكره الا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم ينتفع به ، وولد يدعو له”، حسبه أنه ترك علماً ينتفع به.

‏ ‏في الخامس والعشرين من شهر تموز عام 1990 رحل جدي حسن صعب عن هذه الفانية بجسده الواهن لكن روحه المعطاءة وعزيمته الصلبة ما زالتا بيننا تواكبان تحركنا وتهديان خطواتنا في سبيل تحقيق المثل النبيلة التي آمن بها وناضل في سبيل تحقيقها ألا وهي “إنماء الإنسان ، كل إنسان وكل الإنسان” كان هذا هو شعاره الدائم وهاجسه الأوحد ومعزوفته الفريدة.

اترك رد