قراءة في رواية “قناطر وألوان تعانق السماء” للأديبة المقدسية مريم حمد

 

 

   عفيف قاووق –لبنان

 

رواية ” قناطر وألوان تعانق السماء” للأديبة المقدسيّة مريم حمد، صدرت عن مكتبة كل شيء-حيفا- ناشرون – العام 2022، المتصفح لهذه الرواية يجد أن مفردات القناطر والألوان تكررت في أكثر من موضع، وكأنها إشارات رمزيةيراد بها تأكيد الحق التاريخي للفلسطيني في أرضه،لما تُمثل تلك القناطر الملونة والبيوت الريفية من علاقة عشق وإنجذاب الفلسطيني لها. على عكس تلك العلاقة الباردة التي أبداها شمعون تجاهها فلم نجد هذا التناغم او التآلف بين شمعون اليهودي الدخيل على هذا البيت العريق وبين قناطره وزجاجه الملون.

وأيضا فقد تعمدت الكاتبة أن تعنون فصول الرواية  بأسماء وانواع النباتات والأشجار مثل (سنديان، عُليق،رمَّان،لَوز، لبلاب،زعتر،زنبق،زيتون، مريمية،زيزفون وغيرها من الأسماء). هذه العناوين يُراد بها  التأكيد على أصالة الإنسان الفلسطيني وتعلقة بارضه ومزروعاتها ونباتاتها وخير دليل محاولة المُنتصر أن يحصل ولو على بضع حبات زيتون من كرم زيتون جدّه والمُصادر من قبل المُحتل، وكذلك فعلت النسوة عندما أوقفنّ باص الصليب الأحمر واختفوا داخل بيَّارة حمضيات على مقربة من يافا، لقطف بضعة حبات من الليمون اليافاوي،”شعرت ريم أن عليها أن تخرج عن صمتها وتقطف بضع حبات كرمزية على استعادة حق مسلوب، فقطفت بضع حبات وصعدت للحافلة،259

قراءة الروايات الفلسطينية بشكل عام تُتيحُ للقارىء الذي هو من خارج فلسطين أن ينعم ولو بنذر يسير من السياحة الجغرافية وحتى الدينية في فلسطين لما تتضمنه تلك الروايات من توصيف لبعض الأماكن والعادات، وفي هذه الرواية نتعرف على بعض الأماكن في محيط مدينة القدسوعن تفاصيل الأزقة والحارات،ذاك الزقاق الذي يضم عدة أبواب وخلف كل باب حوش صغير، يتسع لبيتين أو ثلاثة بيوت، وايضا تأخذنا الرواية إلى تلال أبوديس والعيزرية، وبلدات سلوان، ومدن رام الله وبيرزيت وغيرها من الأماكن،ونتعرف على تفاصيل وأشكال البيت الفلسطيني الذي يتخذ شكل المستطيل وواجهة البناء مزينة بألوان زجاج أحمر وأزرق،وأن كل شباكين من شبابيكه قريبين من بعضهما البعض،وتلك الأقواس النصف دائرية المزينة بالزجاج الملون والتي تُزيد هذه الشبابيك أناقة،وهذا ما يعطي البناء جمالية مميزة رغم بساطة تصاميمه158.

بالعودة للرواية نلاحظ ان الجانب الإنساني هو الطاغي في معالجة أحداثها بحيث نلحظ ان هناك ما يمكن إعتبارهدعوة إلى التسامح وقبول الآخر، وبمعنى آخر الدعوة إلى ما يشبه أنسنة الدين، يصف الراوي العليم أسينات بأنها “كانت كأي إنسان نقيّ تُحب الجميع، وترى بأن كل الناس في أصقاع الأرض متشابهون، ويجب أن يتفق المسلمون مع اليهود وكذلك مع المسيحيين، وكأن الصراع مع المُحتَل هو صراع ديني وليس صراعا سياسيا ووجوديا،فهي تقول لولا تدخل رجال الدين المتعصبون لكانت الدنيا أفضل وأجمل وتتسع للجميع، إن هي خلت من الأنانية والطمع اللذان يُتلفان الحياة والبشر.61 “. وفي موضع آخر تقارن ريم بين التجهيزات المكتملة في مستشفى هداسا العيساوية وبين الوضع المُتردي للمشافي الفلسطينية التي تفتقد حتى لأجهزة ألأوكسجين التي يحتاج لها الجنين، ويصف الراوي العليم اجواء مستشفى هداسابالنموذجية: “تبدوهذه الممرضة وكأنها ملاكاً ، أطباء وطبيبات وممرضات وممرضون، عرب ويهود كل واحد منهم يعمل بجد ونشاط، وكأن العالم الخارجي لا يمت لهذه المنطقة بصلة، 197″. أما ريم في وصفها للأطفال حديثي الولادة تقول:” ينام كل هؤلاء الأطفال ولا تعرف منهم من هو المسلم ومن هو الولد النصراني أو اليهودي، وتُكمل: “ليت البشر كلهم يبقون كما هم هنا مسالمون”. أيضا فإن في تعامل ريم مع المنتصر وجوناثان الكثير من التسامح وقبول الآخر، تقول:”الإثنان إبناي، وسأحبهما، أنا أمٌ  ولم تُخلق الأمهات إلاّ للحب.ولم يعد لديّ فضول لأعرف أين ومن هو إبني الحقيقي؟ لكني حتما سأحبه، قد  بدأت أدعو له في صلاتي ، أنا أرفع كل يوم يديَّ وأدعو للمنتصر وأخيه بالخير”.

النقطة الثانية التي نستخلصها من الرواية هي الهوية الضائعة او المُشتتة وهذا ما جسدته أسينات التي  تُمثل المرأة الباحثة عن هويتها، وهي الآتية من مزيج جنسيات وديانات مختلفة كما حدثها جدها الذي كانت أمه عراقية، وأبوه إيراني وهو تزوج من شابة أمها كانت ألمانية، وأبوها بولنديًّا، فأنجبا والدة أسينات،49. ولا بد لنا من تسجيل هذه المفارقة في شخصية أسينات، التي لا يمكن لنا  فهم هذه الإستدارة في حياتها، فبعد ان قدمتها الرواية بكونها الفتاة المتمردة المُمتلئة حماساً للعلم والمعرفة، ولا يعجبها أي شاب تقابله، بل كانت دائمة البحث عن ذاك الذي يحب الفلسفة ويشاركها متعة قراءة الكتب،49  وتوحي بأنها لن تكون تلك المرأة التي ترتق الجوارب، وتعد أشهى المأكولات، ولن يهمها أن تتقن الحب لإرضاء شريكها، بل ستختار من يشاركها الحياة بتناغم ومساواة 53، نجدها فجأة وبعد أن خُيّل للقارىء بداية نشوء علاقة انجذاب ما مع عليّ العراقيّ، نُفاجىء بها وهي تحط في مطار بن غوريون متأبطة ذراع زوجها شمعون دون اي مقدمات.هذا الزوج الذي لا يرى في مؤسسة الزواج ربما سوى مجرد أجساد تلتقي لحظة المغيب بهدف الإنجاب. ويتمنى ان تصبح زوجته حاملا بأسرع وقت خدمة لإسرائيل كما يدعي:” هذه أرض إسرائيل، ليست كأي مكان، نحن بذلنا الغالي والنفيس من أجلها، بنيناها بالدم والدمع والعرق، وما زلنا نتعب ونبني ادعي الله  كي تكوني حاملا، لنرزق بطفل يحمي هذه الأرض ويخدمها، كما  فعل أجدادنا من قبل، عليكِ أن تشعري كباقي الأمهات الإسرائيليات أنك مسؤولة عن بناء ونشأة طفل لخدمة أرض إسرائيل. 187″ .

سعت الرواية لفضح المحتل وممارساته، مُشيرةً الى الإنتفاضة التي اشتعلت شرارتها الأولى من مخيم جباليا في قطاع غزة في عام 1987 بعد دهس أحد المستوطنينلمجموعة من العمال الفلسطينيين على حاجز إيرز، فهبَّ الشعبُ كلُّه معلنا انتفاضة الحجارة في كل المدن والبلدات والمخيمات الفلسطينية. 107″.

كما أشارت الرواية إلى الجدار العازل في عملية توثيق تاريخية لما جرى ويجري داخل الارض المحتلة،وإلى لون الهويات الذي إبتدعه الإحتلال،اللونان الأزرق والأخضرلونا بطاقات الهوية الملعونة، التي دمغ الاحتلال بها البشر، وصنفهم بها إلى أصناف،وبسبب ذلك أصبح التنقل صعبا، فالجميع أصبح مجبرا على الاستدارة حول الجدار، لتصبح مسافة النصف كيلومتر التي كانت على مرمى العين أكثر من عشرين كيلومتر؟. وفي تذكيرنا بالأسرى داخل السجون، وثقت الرواية الأجواء الإحتفالية لعملية من عمليات تبادل الأسرى، وكانت بلدة سلوان على موعد مع تحرير أسيرين،وقدعلت أصوات الشباب، وتبعتها زغاريد النساء، والكل ينظر ويتتبع بحب وشغف ذلك الموكب المهيب،والأمهات اللواتي لم يستطعن الخروج، تناقلن الفرحة من الشبابيك وحلقات صغيرة جمعتهن في طريق الزقاق، قرب شجرة الزيتون الكبيرة، وقرب شجرة التين الأقرب لشارع القرية كيف لا والفرحة اليوم فرحة أمة، والنصر اليوم للجميع؟.

كما أثارت الرواية الزيف والتزوير الذي يمارسه الإحتلال ومن يُسانده في محاولته طمس التاريخ الفلسطيني وتزوير الحقائق من خلال حديث شمعون سواء مع زوجته أسينات أو ولده جوناثان فهو دائم التذكير بأن هذه الارض هي أرضهم الموعودة وان هذه البيوت التي يسأل عنها جوناثان دوماً ما هي الا بيوت الرعاة الذين تركوها ليرعوا أغنامهم،ويخاطب زوجته قائلاً:بالله عليك يا أسينات، أنت لم تعرفي بعد كم عانى اليهود لإقامة هذا البلد، الذي هو وعد الربّ لنا، ألا تعلمين بأننا شعب الله المختار، وقد اختار لنا هذه الأرض لنعمرها؟ ويذكرها كيف كان اليهود يسردون القصص لاطفالهم منذ نعومة أظافرهمليعيشوا على حلم بناء دولتهم، التي سُلبَت منهم، فعملوا جميعا بكدٍ وتعب لبناء هذه الدولة.وشمعون هذا يرفض كل إشارة إلى التاريخ والتراث الفلسطيني لذا نجده دائم التذمر من إهتمام جوناثان بالقناطر والوان زجاجها، هذا الرفض ظهرفي اللاوعي عنده أثناء قيامه بالتحقيق مع المنتصر الذي تباهى أمامه بجمال القناطر والبيوت الفلسطينية،حتى خُيَل لشمعونأنه أمام جوناثان فصرخ قائلاً :”عن أية قناطر؟ وأية بيوت يا ابن الزنى تتحدث؟ لا أريد أن أسمع عن  القناطر ولا التماثل، سحقا لك يا جوناثان من أي مكان خرجت لي؟ تبا لتلك القناطر، تبا لتلك الألوان، لقد سئمت رسوماتك وألوانك، أنا سأربيك وسترى مني العجب، أنت ملكي وتحت أمري، 250

كذلك لا تكاد تخلو محاضرة من محاضرات البرفسور شتراوس إلا ويذكر فيها تضحية اليهود، وعملهم الدؤوب لبناء دولتهم، وكيف أنهم اهتموا بنقل العلم والاداب والثقافات المختلفة لدولتهم، وفوق كل ذلك التعايش والسلم الذي غلف المجتمع الإسرائيلي في دولتهم .

كل هذه الإدعاءات سقطت أمام سؤال أسينات “هل كل هذا الطعام إسرائيلي؟”، كم أحب تعلم وتذوق الطعام الإسرائيلي، كم هو متنوع، لترد والدة شمعونفي الحقيقة لقد ساعدتني عمّة شمعون بتحضيرالأصناف المغربية، أما أنا فقد جهزت الكبّة العراقية والحمصية، وهذه إشارة إلى ان المجتمع الإسرائيلي برمته مجتمعا هجينا يعتمد على تراث الآخرين حتى في أنواع الأطعمة.

خلال الحوار الذي جرى بين البروفسور شتراوس والطالب العراقي علي نلحظ أن الرواية قد خصصت مساحة لا بأس بها على لسان الرواي العليم  للإضاءة على ما يعتقده البروفسور  شتراوس المعروف بحُبه لنصرة ألاقليات في العالم،- كما وصفته !- والذي يتخذ من إسرائيل مثالاً رائعا للتضحية والكفاح، “لقد كان معجبا بولادة دولتهم التي أقاموها بالدم والدمع والعرق، أوجدوا جيشا قويا، زرعوا جبال وتلال إسرائيل، حفروا فوق الأرض وتحت الأرض، كيف لا وكل أثارهم مدفونة هناك؟55″. ولم يكن رد الطالب العراقي علي بالمستوى المطلوب حيثاكتفى بتذكير البروفسور بمجازر العصابات الصهيونيةالتي لعبت دورا كبيرا في تأسيس الكيان الصهيوني،وإرتكاب المجازر في دير ياسين وكفر قاسم وغيرها من المدن.58 . دون ان يُضَمِن رده بالأدلة الدامغة لإثبات الحق التاريخي لشعب فلسطين بأرضه، وان هذه الأرض هي أرض عربية إغتصبها الإحتلال وليست ارض الميعاد كما يزعم.

نقطة أخرى لا بد من الإشارة إليها  والتي قد تلتبس على القارىء، حيث  قدمت الرواية بعض النسوة الفلسطينيات بصورة هشّة في ردة أفعالهن وهمساتهن حول ريم التي أصبحت زوجة لأسير:” جلست ريم في باص الصليب الأحمر وبدأت بسماع همسات النساء من حولها، حول الاف السيناريوهات التي قد تحدث في الشهور المقبلة، البعض حزين على شبابها، والبعض يحسب الراتب الذي ستتقاضاه كون زوجها أسيرا، هل ستطلقه أم ستصبر؟ هل ستبقى في بيت عائلة زوجها أم ترحل؟.256 . هذه الهمسات وإن كانت تحصل في بعض المواقف لكن توثيقها ضمن رواية وإظهار المرأة الفلسطينية وكأنها توظف أسر زوجها للحصول على مرتب او للتخلص من إلتزاماتها الزوجية وطلب الطلاق أجد ان إدراجها في متن الرواية غير موفق ولا يخدمها.

أما في موضوع الخطأ الذي حصل في المستشفى والذي أدى إلى إستبدال الطفلين المنتصر وجوناثان،فلا بد من الوقوف وطرح السؤال المركزي والبديهي في مثل هذه المواقف: ما هي ردة فعل كل من الأشخاص المعنيين وكيف كان تعاملهم مع الحقيقة المستجدة. وفي تطرقنا إلى هؤلاء الشخصيات نسجل الملاحظات التالية :

  • جوناثان:بالرغم من نشأته في بيت يهودي-إسرائيلي، يبدو أن الجينات البيولوجية والوراثية فعلت فعلها في تكوين شخصيته وإهتماماته، لدرجة أن كل من شمعون وأسينات وجدا فيه الطفل المختلف الذي أدمن على رسم قناطر الأبواب والشبابيك، التي كانت تزيّن البيت، رسم الشبابيك والقناطر الزجاجية التي تعلوها. أضف إلى ذلك فقد كان يطرح الكثير من الأسئلة التي كانت تستفز من حوله، يسأل أين ذهب الرعاة؟ من ساعدهم ببناء تلك القناطر؟ من صنع الزجاج الأحمر والأزرق والأخضر والأصفر؟ أكانوا كثيرين؟ هل نحن رعاة؟ هل بيتنا بيت رعاة؟ لماذا نسكن بيتهم؟وفي أول زيارة له لحائط المبكى اضطرب كثيرا ولم يطيق البقاء.
  • المنتصر:وهو المولود من أبوين يهود، لم تظهر عليه أي علامات تثير الشكوك حول هويته بل العكس كانت كل تصرفاته تدل على انه فلسطيني المولد والنشأة، مؤمن بحقه وبمناهضة المحتل وهذا ما ظهر من خلال إصراره على إختراق السور لقطف الزيتون من بستان جده رغم كل المحاذير كما ظهرت صلابة موقفه أثناء التحقيق معهوالإنتصار لأمه ريم ورفضه التعرض لها.
  • شمعون:منذ البدء تولد لديه شعورا بأن جوناثان مختلف، وعندما علم بحقيقة الأمر قال “نعم هو ليس ابني، أنا أستحق الأفضل، كنت دوما أشعر بهذا الشعور، ولم أقدر على البوح به.301”. وهنا لا بد من التساؤل كيف لم يتولد أي شعور غرائزي عندما تقابل شمعون مع ولده(المنتصر) خلال التحقيق. وما كانت ردة فعله عندما عرف انه كان يحقق مع إبنه ويعذبه.
  • ريم : كما ذكرنا سابقا فقد تقبلت ريم الوضع بإعلانها ان الولدين هما ولديها، ولكن الملفت انه مع نهاية الرواية وخلال مكالمتها الهاتفية كانت المكالمة مع المنتصر ولم يكن لديها الفضول للتكلم مع إبنها الحقيقي “جميل او جوناثان”إنها مفارقة تدعو للتساؤل.

كما أن الرواية لم تبين لنا ردة فعل المنتصر عندما عرف بحقيقة نسبه اليهودي.وأيضا لم نعرف ردة فعل جوناثان واسينات عند معرفتهما بالحقيقة وإن كنا نتوقعها أخف وطأة. ولو  تطرقت الرواية لهذا وإستفاضت به لربما كُنَّا أمام فيض من النقاشات والمشاعر التي تولدها الصراعات الداخلية داخل النفس الإنسانية.

ختاما شكرا للروائية مريم حمد على هذه الرواية التي أتاحت لنا فرصة الغوص في محاورها على أمل ان تتحفنا بالمزيد من النتاج الأدبي الهادف.

اترك رد