بقلم: حنّا عبود (*)
هناك صراع يخوضه التقليد الأدبي، يختلف بحسب العصور، وبحسب السلطات المؤثرة في المجتمع. ويتجلّى ذلك في المعركة الدائمة تقريباً بين القديم والجديد.ففي معظم الأحيان يعتقد الوالج حديثاً إلى عالم الأدب أنه يمثل الجديد، وأن كلّ ما عداه يمثل القديم. فهو متعلم ومثقف وابن حضارة حديثة، ولا يستوعب أن يتساوى مع شاعر جاهلي أمّي، في حضارة متخلّفة… إلخ.
وتكثر مسوّغات الغرور لديه كلّما لقي عنتاً من المجتمع الأدبي. ومن أهمّ هذه المسوّغات أنه يرى نفسه بكامل العدّة، في حين يرى الجاهلي خالي الوفاض إلا من الموهبة العفوية، ناسياً أن الزمن تغيّر وأن وسائل انتقال التقاليد الأدبية من جيل إلى جيل قد تغيّرت، ولكن العدّة بقيت واحدة. ففي القديم لم يكن الأدب ابن الموهبة وحدها، بل ابن التلمذة والتدريب لسنوات طويلة، فكلّ شاعر مبدع لا بدّ أن يكون راوية لشعر معلمه، ولكلّ شعر، ولا أدلّ على ذلك من أبي نواس، الذي يعشق شعره أحداث الأدب، باعتباره رمز التجديد والتمرّد على القديم. فقد كان هذا الشاعر راوية يحفظ كلّ ما أثر عن الثقافة العربية الأدبية والفقهية والاجتماعية والفلسفية، حتى أن بعض الفقهاء قالوا بأنهم كانوا يتعلمون منه لولا فجوره، ولا نعرف أحداً إلا أثنى على هضم الرجل لتراثه الأدبي.
نخلص إلى أنه لم يكن الأدب ابن الموهبة وحدها، كما نتوهّم، بل ابن مران عسير وزمن طويل يمضيه المتدرب حتى يجاز من المجتمع، وربما لا يجاز، فهناك رواة أمضوا عمرهم في الرواية ولم يقرّ بهم أحد، من أمثال المفضل الضبي والأصمعي والمبرد وثعلب… وحتى الخليل الفراهيدي لم يعترف أحد به شاعراً، وإن كان فضله جليلاً على الشعر…
انتشار التعليم أوهم المبتدئين بامتلاكهم المبكر للتقاليد الأدبية، وبصورة خاصة بعد وسائل الإعلام الضخمة وانتشار الصحافة الفضائية، وحاجتها إلى كثير من الكتّاب، الذين يكبّرون الموهبة على الدربة. وانتشرت اللغة النثرية حتى في التقاليد الأدبية، ما يزيد المرء قناعة بأن نظرية هيغل في عصر النثر آخذة في التحقّق الفعلي.
الثورات والكتابة
على أن ثورات الفترة الأخيرة، ربما منذ منتصف القرن العشرين، قبل الربيع العربي، وفيه، وربما بعده، أحدثت نوعاً من الطلاق بين الحدث والتقاليد الأدبية، فقلما عثرنا على آثار أدبية تتفاعل مع الثورة سلباً أو إيجاباً، في حين نعثر على أدب الدعاية، الواعية أحياناً وغير الواعية في معظم الأحيان، من دون أيّ اقتراب بارز من التقاليد الأدبية. وفي حين ترتبط “الحماسة” في ذهننا بالأدب الجميل المنتقى، نلمس الحماسة المندفعة في الربيع العربي، من غير أن نلمس الجمالية الأدبية.
ونلاحظ أن كثيراً من الكتّاب تعمّدوا الابتعاد عن الخوض في الموضوع المطروح، بطرح موضوعات نثرية، من أمثال التعليم والتربية والاقتصاد والتواصل الحديث والصناعة والزراعة والجغرافية الاقتصادية وغير ذلك من الموضوعات التي يتوصلون منها إلى أطروحة التخلف ووضع اللوم على السلطات الحاكمة، وتحميلها مسؤولية قيام كلّ هذه الانتفاضات، فهي التي جعلت المتناقضات تجتمع ضدها، فتؤخّر البلاد أزماناً طويلة.
نحن- هنا- أمام ظاهرة “الكتابة” وليس الأدب أو الفلسفة. والمقصود بذلك أن معظم الكتّاب غير مختصّين في القضايا التي يطرحونها، لأن الزمان الحالي لم يدع هذه المهمّات من دون إقامة مراكز أبحاث خاصة بها، فلكلّ فرع من الفروع التي يُكتب فيها الكتاب هناك مؤسّسة دراسات كبرى لا تقوم على الحزر والتخمين، بل على السبر والرصد والإحصاء، فحتى المياه الجوفية لها مؤسّسة أبحاث عملية تجري الدراسات اللازمة. ومهما كانت النتيجة صحيحة، وهي ارتباط نظام الحكم بالتخلف وتجميع المتناقضات ضدّه، فإن الوصول إليها لا يكون بأسلوب أداء فنّي جميل.
ويطّلع القرّاء على هذه الكتابات، ولكن من دون أن يولوا الكاتب الصدقية التي تحوزها المراكز المختصّة. وبذلك نرى أنفسنا أمام ظاهرة النقد في كلّ المجالات إلا في الأدب، فقلما حصل المستخدم على “نقد أدبي” في المواقع الفضائية، فكأن “الكتابة” الجارية طمست كلّ معالمه تقريباً، مع ما طمست من الدراسات الأدبية والفنّية، وكلّ ما له صلة بعلم الجمال.
العصر الجديد
نحن أمام عصر جديد، على ما يبدو، وهو عصر “الكتابة” التي لا حدود لها، أو لنقل أمام عصر الكتابة المتسيّبة من أيّ تقليد أدبي. قد تكون من منتجات الأحداث، أو ما شئت من المؤثرات، ولكن القالب الأدبي والفنّي والجمالي، سواء في الإنشاء أو النقد، غائب منها، بعيد عنها.
لم تكن الأمور هكذا حتى الحرب العالمية الثانية، وما الحرب سوى ثورة بين الدول، بينما الثورة حرب في قلب الدولة الواحدة، فمنذ الثورات في العصر الحديث- وبعضهم يجعل الثورة الفرنسية فاتحة العصر الجديد- والتقاليد الأدبية بارزة حتى في الموضوعات التي تتناول الحدث الثوري مباشرة. ويعتبر شاتوبريان ابن الثورة الفرنسية الشرعي، واستلم في العام 1823 منصب وزير الخارجية، ومع ذلك لم يكتب كلمة واحدة خارج الإطار الأدبي. وعندما كتب فكتور هيغو مؤلفاته الشعرية والنثرية لم يخرج عن التقليد الأدبي، على الرغم من أنه النصير الأكبر للحركة الرومانسية التي تدّعي الثورة والتجديد.
ولا بدّ من الإشارة إلى أن الكتّاب العرب التزموا الإطار الأدبي منذ الثورة الفرنسية وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي في كلّ العصر الجديد. كان في مقدور فرنسيس المراش أن يعلن تأييده للثورة الفرنسية كما يعلن أيّ كاتب اليوم تأييده، ولكنه آثر القالب الأدبي، فكتب رواية “غابة الحق”. وكتب عن الثورة الفرنسية كثيرون غيره بالقالب الأدبي. كانت الثورة الفرنسية ملهمة لكثير من الكتّاب العرب، فأبدوا موقفهم في السياق الأدبي، إذا استثنينا الأدب السياسي المتّسم بالمباشرة.
وكان الطابع الأدبي هو الغالب على الكتّاب العرب في كلّ مراحل العصر الجديد. ففي الحرب العالمية الأولى، قدّم طه حسين والعقاد والمازني والحكيم بعض آثارهم الأدبية، ولولا بعض إشارات توفيق الحكيم لما عرفنا للحرب الأولى، والثانية أيضاً، أيّ أثر في الكتابة الأدبية. وإذا استثنينا “مستقبل الثقافة في مصر” ، لأن طه حسين كتبه بعدما خبر التعليم واستلم وزارة المعارف، فإن كلّ كتبه تدور حول الأدب وفي الأدب، من رواية وقصة ونقد ودراسة. وأنتج المازني أهمّ كتبه في فترة ما بين الحربين، “قبض الريح” و”حصاد الهشيم”، ومن الكتب المشهورة للعقاد في الفترات العصيبة والمنعطفات الحاسمة: ” الفصول”، “مراجعات”، “ساعات بين الكتب”، وسواها ما لا نجد فيه أيّ ذكر للحرب والثورة إلا في قالب النقد الأدبي.
وعندما أراد توفيق الحكيم أن يعلن موقفه المؤيد لثورة مصر 1919 خرج علينا بالرواية الشهيرة “عودة الروح” ولم يعلن موقفه كما يعلنه الأنصار المتحمسون في هذه الأيام. وظهر هذا الاحترام الكبير للتقليد الأدبي في فترة ما بين الحربين، وهي فترة عصيبة تحت وطأة الحكم البريطاني، فكتب “أهل الكهف” و”شهرزاد” و”يوميات نائب في الأرياف”، وفي فترة الحرب العالمية الثانية كتب “راقصة المعبد” و”سليمان الحكيم” و”حمار الحكيم” و”بجماليون” و”زهرة العمر” و”الرباط المقدس”…
وفي هذه الفترة المتأزمة كتب عبد الرحمن صدقي ديوانين: “من وحي المرأة” رثى فيه زوجته الأولى، و”حوّاء والشاعر” رثى زوجته الثانية الإيطالية، ودرس بودلير وأبا نواس وغوته وطاغور… ولم يدرس الأحداث والسياسة والأعلام التاريخية في غير ميدان الأدب، ولا الحركات في غير ميدان المسرح. كان يحترم قلمه، ولا يحشر نفسه في ما لا يتقنه.
ولو شئنا الرصد الشامل، لرأينا الكثيرين من أبناء الوطن العربي يهتمون بما تكرسوا له ولم يعتدوا على أيّ ميدان له أصحابه والمختصون به. ولا يعني هذا أنه لم يكن لهم رأي بما يحدث، ولكن المقصود أنهم عبّروا عن موقفهم من ضمن الإطار الأدبي. فالقصائد الوطنية، والقصائد المؤيدة للثورة العربية الكبرى، أو ثورة 1919 المصرية أو الثورة السورية الكبرى أو ثورة العراق… أو الحرب العالمية الأولى أو الثانية… خير مثال على الموقف المعلن لهؤلاء الأدباء. ليس المهم اتخاذ موقف سلبي أو إيجابي، بل المهم الحفاظ على التقليد الأدبي، حتى يكون للفنون الجميلة حضورها الكبير.
منذ منتصف القرن الماضي- الانقلابات العسكرية- حدث المنعطف الكبير الذي أبعد الطابع الفنّي عن الحدث.
ثقب أسود أم موت رحيم؟
المتوقع أن يحدثنا الكتّاب عن الكتب والمكتبات، والرسائل والمخطوطات، والأنواع الأدبية والرحلات، والمذاهب والمدارس في الأدب والفلسفة والفنّ، عن المترجمات والأدب المقارن، عن حياة شاعر أو أديب، لا أن يكتب شاعر عن نتائج الاكتظاط وأصول التعليم، وينشر مدرس اللسانيات مقالة عن الصراع السياسي في القرن الأفريقي… ويعالج أستاذ الفلسفة الصراع على أفغانستان…
هناك ثلاثة أقانيم: الأدب والفلسفة والفنّ تشكّل عماد الحضارة الراقية، وعندما يُصاب أقنومٌ بالإهمال، يضعف وتنتقل العدوى إلى أخويه، فتموت الأقانيم موتاً ذاتياً، وهو ما يسمّونه الموت الرحيم، وعندما تبتلى هذه الأقانيم بثقب أسود من الطغيان تغرق في سبات شتوي منتظرة الربيع. فعلينا في الربيع أن نكتب من ضمن شروط الإنتاج الأدبي تجنّباً للموت الرحيم.
واليوم تراجع الأدب، وتلاشت الفلسفة، وأصيب الفنّ بمرض الجذام الذي يملأ الوجه والجسد بالبثور والثآليل والاندفاعات المقزّزة، فإذا لم نهتمّ بهذه الأقانيم ونحرص على تقاليدها، فإننا نسلّمها للموت الرحيم، وهو موت بلا قيامة، وأشدّ فتكاً من الثقب الأسود الذي يفرض السبات، فيكون الموت على رجاء القيامة.
********
(*) مؤسسة الفكر العربي، نشرة أفق
(*) ناقد وباحث من سوريا
كلام الصور
1- عباس محمود العقاد
2- توفيق الحكيم
3- المازني