البعد التجديدي في خطاب الأب ميشال الحايك الديني (*)

بقلم: د. ناتالي خوري غريب

-كان صوتًا صارخًا مع يوحنّا في البرايا والمسايا، أن عودوا إلى ما في نفوسكم من خبايا  وخفايا..تعرّوا أمام الله، لتعتمدوا بالكلمة الحق، فتلبسوا المسيح… Dr-nathalie-khoury-4فقد أُعطيَ الحايك من علُ فمًا من ذهب، على بعد رؤيا وتقويم وتصويب، داعيًا الإنسان إلى الوقوف أمام محكمة الضمير، كما دعا الدينَ إلى الوقوف أمام محكمة التاريخ، ليؤديا حسابًا عن مساعيهما إلى مراميهما…

 وبما أنّ الخطاب الديني في زمن التفسّخ والتعصّب والشتات، بات أحدَ أبرزِ أطراف المعادلة في الحوارات الفكرية، نعود إلى عظات الأب الحايك، تحديدا” رسالة إلى بني جيلنا”(1968)،  في رصد بنيته التجديديّة.

أوّلًا:-على مستوى إنتاج الخطاب الديني ومنطلقاته:

أ-أنسنة الخطاب الديني:

وهي عند الأب حايك ظاهرةٌ لافتةٌ ومجدّدة على مستوى البنية والإنتاج، معلنًا”حالةَ طوارئ روحية وفكرية بحثا عن الانسان.43″إعلاء من شأنه وجودًا وكيانًا وهويّة وحريّة. فبنى خطابه اوّلًا على ثقافة النقد والسؤال، من أجل إعادة إنتاج علاقةٍ بين الإنسان والنص التأسيسي “الكتاب المقدس”، معطيا العقلَ دورًا كبيرًا، تمهيدًا للهدم واعادة والبناء، من أجل الوصول إلى السماء، متقنًا فنّ تجاوز الواقع انطلاقًا من المصيبة كنعمة  لتكون صحوة من غفلة…ويقظة من سهوة. فتكون النتائجُ المتوخّاة من هذه التساؤلات بناءَ علاقةٍ صحيحة غيرِ جامدة مع تاريخ الإنسان وماضيه، فلا تكون محكومةً بالسكونيّة بل بالحركيّة القائمة على التفاعليّة والفاعليّة، ليتحقّقَ المشروعُ النهضوي من النقد والتساؤل، فتكون أنسنة الخطاب الديني دافعًا للبناء التنموي وليس للانغلاق في مجاهل التعصّب.

ب- في إنتاج الخطاب الثوروي.

 كان للحايك مفهوم مغاير للثورة، متنبَّهًا ومنبّهًا إلى أنّ في كل ثورةٍ عنصرين: واحدا للخربان وواحدا للعمران.49، وأنّ الأخطار التي تحيط بالإنسان الحائر بين التزوير والأصالة عديدةٌ. ويرى أنّ “التنكّرَ للجذور جريمةٌ ضدّ الأمس، وتوقيفَ الحياة جريمةٌ ضدّ المستقبل.51″لتكون ثورتُه على رفض التغرّب عن الذات من أجل التقرّبِ منها، فالثورة لديه مرادفةٌ للحقيقة وتتحقّق حين تصبح ضمانةً للحياة وليس ضدّها كما عند الفئة التي” قالت بثورة جذريّة غايتُها نسف ُالاوضاعِ لتعيد الخلقَ من أوّله”ص55. فلا هي فئة من المحنطين الموميائيين …ولا فئة من المقلّدين الآخذين بالتوصيات”55. وبذلك، يكون الحايك قد أدرك تلك ال”علاقةَ السببيةَ بين إيمان الإنسان وبين تلبية حاجاته، فكلما كانت استجابةُ الخطاب الديني لتلك الحاجات أعلى، تضاعف دورُه وازداد قوةً وصلابة وثباتاً[1].

ثانيًا:-على مستوى انفتاح الخطاب الديني:

لا تكمن أهميّةُ خطاب الحايك الديني في بحثه حول ماهيةِ حقائقِ الأشياء من أجل تبيانها في ذاتها، بل، تكمن في الغوص على إظهار شبكة العلاقات القائمة بينها استنتطاقًا للإفادة التي تنطوي عليها، وبخاصّة في موضوع التلاقي والتحاور. محدّدًا الإنسان بأنّه مجموعة صلات تمتدّ إلى كلّ إنسان.26، فيما يتجاوز العرق واللون والدين والطائفة، معلنًا انتفاءَ أيِّ قيمة لعظة في كنيسة او مجلس إن لم يكن من ورائها تعزيزُ هذه الصلات، فما دون ذلك تنكّر للإنجيل، ومن فكّر بغير هذا التفكير فقد رجع ورجّع التاريخَ الى ما قبل الميلاد.ص 20… “وليس للكنيسة مشروعٌ صالح غيرَه.ص20. إذا تقع أهمية الخطاب الديني عنده على العلاقة بين النص بما هو ذات، والواقع بما هو موضوع يشكله الآخر.. فالذات تصير نصًا وموضوعا تبني جدليةَ تكاملِها التوليديةِ وتتقاطعُ في تشابكاتٍ مع الآخر نصًا وواقعا بجدلية حوارية تنفي الصراعيّةَ من التلاقي باكتشاف أعماق الأخوّة بين الناس. إذ يقول:”لا بدّ لسائر الديانات أن تلتقي معنا…لنسير نحو التجمّع المسكوني الأخير”62. وهكذا يكون التكاملُ عبر إخراج المكنون فيها من مرحلة القابلية او الممكن إلى مرحلة الفعلية القادرة على التلاقي والعلائقيّة الصحيحة انطلاقًا من الباطن إلى الظاهر، في قراءة صائبة لجوهر الأديان..بدءًا من ثورة الكنيسة، “فما من دين في العالم إلّا وفي وحيه الأوّل هذه الرواسبُ النيّرة، فإليها يعود المخلصون من كلّ مذهب ودين”، ص 92. مراهنًا على رجاء المحافظة على الصلح بين الأرواح، عائدَا إلى أمثلة من التاريخ يستنطقه ليكون شاهدًا على هذا التحاور والتخاطب، “يوم كان الأسقف أبو قرّة يتجالس والخليفة المأمون، ويوم كان البطريرك طيموثاوس النسطوري يجادل الخليفة المهدي في بغداد”.ص17.وبذلك، يستعيد النص التاريخي حركيتَه الفاعلة الإيجابية أمام الجمود الذي أنتجته بعضُ المقولات الكلامية والتفسيرية واستعادة مثل هذه الحيوية تقتضي عودة اللحمة بين العقل بما هو تدبرٌ وخبرة وبين الروح بما هي سامية وبين العمل بما هو اجتهاد في البناء والإنماء.michel_hayek 1

ثالثًا: -على مستوى تأويل الخطاب الديني

أ-البطولة بين الماضي والحاضر:

في مفهوم البطولة: رأى الحايك إلى وجوب تغيير مفهومِ البطولة في النفوس من أجل تأويل آخر له على ضوء فهم واضح للمسيح. “فالقتلة لا نسمهم شجعانًا بل لصوصًا..56..” لأنّ المسيح لم يأت بالسيف بل بنار المحبّة ولم يهرق في ثورته نقطة دم واحدة إلا من دمه57″ حين نادى بالصفح الانجيلي عوض الثار الموسوي وبالرحمة عوض القرابين والاضاحي58وفي ذلك دعوةٌ إلى تقويض المفاهيم المغلوطة التي يقوم على أساسِها إنسانُ اليوم في مفهوم البطولة القائم على أمجاد خرافيّة وبطولات وهميّة ، ” كالزير وعنترة وأبو زيد الهلالي(35)  تاركين سيرة افلاطون وأرسطو..وفي ذلك ثورة على الإنسان المعاصر الذي راح يجمع نقائصَ الأسلاف ويتوقّف عندها.37ص.

ب- بين التأصيل والحداثة، وفصل الدين عن الدنيا:

يشدّد الحايك على فهم النص الديني بما له من غائيّة المحبة إذ يقول “أوامر الله باطلة إن لم تكن لأجل المحبة”43..ففتح على هذا الأساس بابَ الاجتهاد للفهم وفصل ما لقيصر وما لله72، تجنّبًا للالتباس  في الدين والدنيا معًا.74مستشرفًا مصير الدين الى البوار الروحي إن لم يتمّ ذلك.

ج-في  العقل والإيمان:

يشدّد الحايك على أن يعجن الانسانُ من طينتين :العقل والإيمان، ” ان شئنا نقول تتآخى اثينا محجةُ الفكر واورشليم مدينةُ الايمان. ويتم الوفاقُ الذي قام به اغسطينوس ويحي بن عدي عند المسيحيين وابن ميمون عند اليهود وابن رشد عند الاسلام…42 ليتم التفاهم.وبذلك، يصرّ الحايك على ضرورة الافادة من الاختبار الباطني الإنساني للفهم المتجلّي بالإيمان على أن يستكمل هذا الإيمانُ طريقَ التساؤل والفكر والعقل. إذ يقول:”ان عين العقل والحسّ قصيرةٌ ولا بد له من النظر بعين الايمان  الصادقة التي تدرك بالحدس والاختبار الباطني.91

وهكذا، يرفض الحايك التمترس وراء النصوص من دون ربطها بسياقاتها التاريخية والثقافية، لأنّ ذلك  يؤدّي إلى الابتعاد عن الواقع وإلغاء العقل، ولهذا نجد الخطابَ الديني يركّز دوما على حاكمية النصوص في مجالات الواقع والفكر ما  أدّى إلى تنصيب النص كسلطة مطلقة  في التمسك بالدلالات الحرفية في مقابل انحصار التفكير الإبداعي، وهذا ما يستلزم نقدا وتمحيصًا للخطاب الديني وإعادةَ قراءةٍ وتأويل لأنّ الدين الحقّ بحسب الحايك: “علاقةُ فكر وقلبٍ وحياة بين الله والإنسان..7 7وتاليًا يجب عدمُ اقحام الدين  في موضوع الدنيا لانه يصير مؤامرة ًعلى الدين والدنيا معا74.

د-الدين والحريّة: يرى الحايك إلى حتميّة ارتباط الدين الحق بالحريّة، إذ يقول” كلّ دين يخشى حريّة الفرد باطل.74 يجب طلب الحق لا عن طريق التراث والتقليد بل من طريق الاقتناع الباطني الشخصي المسؤول7. ففي ظلّ المؤامرة على الإنسان والاغتراب عن حقيقته، يجد  أنّ على الأديان أن تعيَ مسؤوليّتها وتتحسّسها من خلال نقِدها الذاتي، وتساؤلِها عن التبعيّة90.

ه-في الباطن والظاهر:

يقول الاب الحايك:..”بموت المسيح مات حرف الشريعة ليحيا الروح فيها.104- يجب موت الدين طالما اصبح الدينُ حروفًا لا روح فيها.107إذن، من وجهة نظره، ليس الدين في حدّ ذاته هو ما يسعى إلى نقده، بل الى مفهومٍ معينٍ للدين، ذاك المعنى الذي رسخته الممارسةُ التاريخيةُ والإيديولوجية عبر عصور التاريخ وأدى إلى التحنّط الفكري. فيرى “أنّ تأويل ما هو اجتماعي/تاريخي في النصوص شرطٌ لتُجدِّدَ النصوصُ ذاتَها بتجدد ما هو جوهريٌ أساسيٌّ وإسقاط ما هو عرضي مؤقت بالنسبة إلى شروط اجتماعية / تاريخية مغايرة[2].

رابعًا:-على مستوى بلاغة الخطاب الديني:

إنّ اتساعَ ثقافةِ ميشال الحايك، الأديب والشاعر واللاهوتي والواعظ مكّنته من السيطرة الفنيّة على رموزه وتشعّباتها، فلم يأت التوظيف البلاغي حشوًا او تكلّفًا أوحلية للتوشيّة، بل جاءت بلاغةُ النص من بنية خطابه ما أسّس  لفرصة استخدام اللَّغة بكافة طاقاتها، وتقنياتها بما يظهر ديمومةَ فاعليّـها وعمقَ إقناعها.

وتكمن بلاغةُ خطابه وفرادتُه في مدى قدرته على استخدام التناص والاقتباسات والتضمينات والرموز والأساطير والأبطال من التراثين الأدبي والكتابي، الخيالي والواقعي، سلبًا وإيجابًا، كما ظهرت عبقريّته في مقدرته على المقارنة بينهما استنباطًا لمفاهيمَ جديدةٍ يصعُب الوصولُ إليها لولا وجودُ إيحاءات تربط بينها وبين مرموزها تجعلها غيرَ غريبة عن زمن القراءة  ولقد اعتمدها ليس لأنّها تغني تجربتَه عن التَّصريح المباشر، بل لتعلّم إنسان الحاضر مآسي أخيه في الماضي، لاستثمارها في الظرف الملائم بالمثل والصورة والمشهديّة :

في تضمينات العهد القديم:

أ-استخدم مثال بابل وسدوم: ليبيّن الشرّ المستفحل في العالم المعاصر، إضاءة منه على هلاك الفرد بين بابل التكويمية، رمزِ المدنية التي جعلت قيمةَ الانسان بقدرته على الانتاج، صفرًا بين اصفار، وبين خطيئةِ  سدوم، “رمزِ الانعزالية التي عقّم بها الإنسانُ التاريخ. 24

 ب-“شمشون إطباق الكون على الخراب، ليقول لنا :”إمّا أن يصبح الإنسانُ بقدرة العقل والمعرفة شمشومًا جديدًا،  أو أن يصبح بالإيمان والمحبة مسيحًا آخر.”95.

في شخصيات في الأدب والفكر والفلسفة:

كذلك أحيا حيًّا بن يقظان ، متمنيًّا عودتَه في إشارة إلى فكر ابن طفيل، الاتي من جزيرته ليوقظ الإنسانَ ويبعثَ العقلُ الميتُ حيا36.تمجيدًا لدور العقل في فهم الوقائع والمصائر.

كما أشار إلى سقراط،  الشخصية الفلسفية التي تبحث عن حقيقة الإنسان بالفكر والعقل في هذا العالم الغبي حيث قُتل مسمومًا ليظهرَ للناس استمرارَ جهلهم وغبائهم إذا أكملوا كما أسلافُهم فأسهموا بضياع حقيقة الإنسان.

رمز: اوذيس وابراهيم أوذيس اسطوري ملحمي وابراهيم كتابي من التاريخ

استحضر الحايك أوذيس، رائدَ البشرية البحاثّة الجوّابة ورمزَ العقل الرشيد والتساؤل والمعرفة والاكتشاف وفشل مساعيه، وكما استحضر ابراهيم شيخَ الايمان الاول، رمزَ الانسان المغامر بعقله وقلبه وحياته كلّها على كلمة واحدة من الله”42.

وفي الختام، قد يصحّ لنا التساؤل: لم تشديد الحايك على ثنائيّة العقل والايمان في كلّ ما يطرح من إشكاليات؟ إذ تارة نراه يعلي شأن العقل على الاختبار الديني الباطني وتارة أخرى العكس، وتارة يساويهما ويحتمّ تلازمَهما…ولا يُفهمنّ من كلامنا أنّ ثمّة إرباكًا في نصوصه حول هذا المفهوم، لكنّها إشكالية تستوجب التوقّف عندها، من فهم إصراره على ضرورة تبدّلات الوعي عند الأديان والإنسان، وهي إشكالية يجدر البحثُ في ثناياها ويتطلّب التبحّر فيها مجالًا آخر ومناسبة أخرى ووقتًا أطول. وشكرا.

المراجع

[1] -محمد المحفوظ، نقلا عن:http://aafaqcenter.com/index.php/post/553.

[2] – نصر حامد ابو زيد.في كتابه نقد الخطاب الديني. http://www.jadaliyya.com/pages/index/14495/-%D9%86%D9%82%D8%AF-

%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86%D9%8A

*****

(*) محاضرة ألقيت في الندوة الفكريّة حول كتاب الأب ميشال الحايك:”طريق الصحراء، الأب شربل”، Le Chemin du desert، تعريب: ميشال عواد، هنري كريمونا، بول عنداري، من تنظيم نظم “مركز فينيكس للدراسات اللبنانية” في جامعة الروح القدس- الكسليك.

 

اترك رد