قليلاً من الرحمة – إنسانيّة حمار

 

   د. علي حجازي

عند انتصاف الهاجرة، جمعتُ العدّةَ التي كنت أستعين بها في تشحيل شجرات الزيتون بعد القطاف، استعداداً للمغادرة. (قال الأستاذ عادل وأضاف)

فجأة، سمعتُ صراخاً وصدى ضربات متواصلة.

تركت العدّة تحت الزيتونة، وأسرعت أعدو صوب الجلّ الذي يفلحه سمير منذ الفجر على ثوره الأصبح والحمار الذي لا يقوى على مجاراة الثور في الحراثة مهما كانت قوّته.

وصلت، فأوجعني المشهد المحزن؛ الضربات الموجّهة إلى رأس الحمار وقفاه  تتواصل من غير انقطاع، مترافقةً مع شتائمَ يكيلها سمير له ولأبناء جنسه كافة.

الحمار المسكين يتلوّى من وقع العصا الطويلة التي لا تنفكّ تنهال عليه،  ويدور على نفسه دورات عديدة، بعد تلك الضربة القويّة التي أصابت رأسه، فأفقدته التركيز تماماً.

هالني المنظر المؤلم، فهذا الحمار  يتساحب، منذ الصباح، وهو يحرث الأرض مع الثور قبل أن يركبه سمير الممسك بالمحراث الموضوع أمامه بيد، وبالمساس الطويل باليد الثانية، وكأنّ النصيبَ الوافرَ من الضرب الذي ناله خلال الفلاحة لا يكفيه!

بعد صراخ سمير المتواصل المترافق مع صدى الضربات أبصرته يسقط أرضاً. للحقيقة والواقع؛ لا أعرف ما إذا كانت سقطته مقصودة من الحمار، أم بسبب  فقده التوازن.

ابتعد الحمار قليلاّ، وفتح عينيه، بصعوبة بالغة فتحهما، وشرع يحدّق إلى سمير بعينين دامعتين.

لدى رؤيتي دموعه ونظراته تساءلت: “أهي دموع الفرح بالانتقام من صاحبه الذي تعامل معه بقسوة كبيرة، أم هي دموع الإشفاق عليه، لا أدري”.

سمير يحاول الوقوف، فلا يقدر. لانّه سقط على الحجارة التي نقلها بنفسه، سابقاً، من أرض الجلّ إلى الربعة التي شهدت الحادثة الآن.

تقدمتُ منه، من جثته الضخمة، محاولاً مساعدته على الوقوف، وحمله على ظهر الحمار الذي ما فتيء يرمقنا بنظرات غريبة زائغة؛ لكنّه اصدر صرخة قويّة، تشي بإصابته البالغة. عندها قررت الإسراع في المغادرة طلباً لسيارة إسعاف ، وفريق طبّيّ متخصّص ، فوقع بصري على عيني الحمار الذي كان ثابتاً مكانه يحدّق.

دنوت منه، مسَّدت رأسه ورقبته، فارتعش ارتعاشات خفيفة، وسرعان ما رأيت دمعه يتهادى على خدّيه.

دنوت منه أكثر، من رأسه  المصاب بجراح عديدة لا تزال تنزف وهمست في أذنه:

“أراك تواصل التحدّيق إلى سمير، ما الذي تنوي فعله؟”

هزّ رأسه وبادلني الهمس:

“والله، أنا في حيرة من أمري، أخيّر نفسي  بين الإجهاز على هذا الغبيّ، عديم الرحمة والإنسانية، فأشبعه رفساً

بحافريّ هذين اللذين فقدا حذوتيهما منذ زمن، ثمّ، أمسك بنطاله المتهالك ذاك بأسناني ، وأجرّه على الأشواك والحجارة حتى يُدمى كما أدماني الساعة بذاك المساس الذي أشبعنا به، أنا وذاك الثور الصامت صمت الوتد الآن، ضرباً مبرحاً لا يحتمل ولا يطاق ، وبين  الاكتفاء بالرفسة القويّة التي استحقّها مني على ما ألحقه بنا.

-ألا تعد معي لمساعدته وإسعافه، فسمير صاحبك، وحرام أن يبقى مطروحاً على الأرض يتألم ، فأنا أساعده بيدي، وأنت تُعينه بأسنانك فالمسامح كريم؟

-وأنا من يسعفني؟ من يريحني من آلامي وأوجاعي قل؟ ثمّ هو ليس بكريم، فأنت أستاذ وتحفظ ما قاله الشاعر:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته. وسمير لئيم ؛ وليس كريماً أبداً، وعليه، فهو لا يستحقّ المسامحة أبداً.

“أغمضت عينيّ قليلاً ، ورحت أستعيد المرّات العديدة التي سامحت فيها الحمير من بني البشر الذين نعتوني بالحمار” ،  وسرعان ما فاجأني بإعادة السؤال:

-ما ردّك؟

-الآن أنا مثلك حمار (في نظرهم)

-حاشاك يا أستاذ، أنا أعرف مقدار احترامهم لك يا أستاذ،. نعم اسمعهم يصفونك بالنزيه .    ثمّ، هل لك أن تبيّن لي لمَ وصفت نفسك بهذا الوصف غير اللائق بغيرنا نحن معشر الحمير؟

-هل سرقت يوماً (قلت)

-لا ، وما هذا السؤال؟

-هل عقدت صفقات مشبوهة: سيارات وطائرات وصواريخ وأدوية وبنزين ومازوت وطحين وتموين وحليب أطفال؟

-لا، لا، لا…

-هل عرضت عليك رشوة وأبيت؟

-لا

-هل استغلّيت وظيفتك لمآرب شخصيّة دنيئة؟

-أعطني مثلاً على ذلك.

-بعض الموظفين يغشون ، يظلمون، يسمسرون ويرتشون.

-الحمد لله الذي خلقني حماراً كي لا أرتشي ، ولا أغشّ ، ولا أسمسر.

-عال لأنّني رفضت إطعام أفراد أسرتي من مال حرام، ورفضت كلّ ذلك، نعتوني بالحمار فما رأيك؟

حاشاك حاشاك!

-تغيرت المقاييس يا عزيزي، فالذي يفعل كلّ ما ذكرت أو بعضه هو بنظرهم شاطر، امّا نظيف الكفّ واليد واللسان  فهو حمار . أنت انتقمت لكرامتك فرفست هذا الذي ألحق بك الإهانة . أمّا أنا فسامحت. ما رأيك؟

-أنت إنسان طيّب القلب يا أستاذ.

-الإنسان طيّب القلب بنظرهم حمار أيضاً. على كلّ، امشِ معي إلى القرية طلباً للمساعدة هيّا. وفي الطريق تحكي لي سبب الاعتداء الذي تعرّضت له على يد سمير بالضبط .

مشيت بسرعة، ولمّا لم أجده يسير بمحاذاتي التفتّ إلى الوراء فرأيته يسير بصعوبة بالغة، وهو يتمتم بصوت مسموع:

غريب أمر بعض بني آدم. لا يألف قربهم حيوان إلّا أهانوه وآذوه، وأذلّوه، وذبحوه ، وسلخوا جلده سلخاً بعد كل ما قدّمه لهم من خدمات، فالله خلق الحمير ليركبوها لا ليفلحوا عليها .

توقفت قليلاً ، وأشرت إليه أن يتابع سرد حكايته بصوت مسموع.

-نعم، فبعدما فلحت الجلّ  .مع ذلك الثور الذي أنهكني تماماً، ولم أقدر على مماشاته. بربّك قل لي: هل عاقل من يربط حماراً إلى جنب ثور قوي في الفلاحة؟

-وبعد؟

-لمّا انتهى هذا الشخص القاسي  من الحراثة، كنّا ننتظر، الأصبح وأنا الحمار الذي بخل البشر  عليه وعلى بني جلدته  بأسماء نحملها، نُعرف بها، أن  يتركنا نأكل ما أنبته الله في هذه الأرض من أعشاب؛ لكنّه  وضع الجلّ على ظهري، وشرع يضرب بقسوة ما بعدها قسوة، كما رأيت. فهل عدل ما فعله هذا البشريّ بحمار  مثلي هدّه التعب، وأضحى غير قادر على السير بسرعة. وأخشى ما أخشاه هو الانتقام الشديد منّي بعد الذي أصابه. اعذرني يا أستاذ، فأنا أفكّر الآن في الانتقال إلى مكان بعيد، لا يستطيع سمير وأولاده من اللحاق بي.

-أتغادرنا إلى غير رجعة؟

أيهون عليك ترك صاحبك وهو في هذه الحال؟

-البركة بالجرارات الزراعية التي لا تحسّ بالوجع، ولا تُربط إلى جوار ثور في نير واحد، وقديماً سمعتكم تقولون: إنّ الهوان حمار القوم يعرفه …

لا ، فالحيوانات لا تعرف الذلّ ولا تألفه، وقد رأيت ذلك الآن وعلمته. إنّما، نحن معشر الحيوانات، نحاول أن نسامح؛ ولكن البعض لا يقدّرون ذلك أبداًً، بل هم يخطئون التفسير. وبعد، تسألني إلى أين؟

جوابي واضح ؛ أرض الله واسعة، ورزقه وفير. ثمّ لا تنسَ أن تسلّم على ذلك الشاعر الضبع الذي ألصق  بالحمار صفة البلادة وتحمّل الإهانة.

-أتقصد الشاعر الضبعي؟

-الضبع أو الضبعي لا همّ، فالضبعي مأخوذ من الضبع.

ندت عيناي دمعاً شفيفاً، وأخذت على المتلمّس الضبعي قوله:

ولن يقيم على ضيم يراد به إلّا الأذلّان عَير الحيّ والوتد.

هذا على السخف مربوط برمته وذا يشجّ فلا يرثي له أحد.

لم اشا أن اقف حجر عثرة أمام قرار اتخذه بالابتعاد مخافة الانتقام الذي يتّصف به أكثر بني البشر فقبل افتراقنا قلت له : سأكتب الظلم الذي لحق بك من بعض بني البشر .

-إيّاك أن تفعل ، فأنا أخاف عليك من الحمير البشرية ( قال )

-لا تخف ، فأكثر الحمير من هؤلاء لا يقرؤون .

-أذا ، أخاف عليك من حمير مسخّرين من قبلهم لقراءة ما لا يفهمون .

قلت ذلك وبقيت أرنو إليه، مشفقاً على هذا  المخلوق الذي يخاف عليّ من حمير هذا العصر ، إلى أن توارى عن ناظري تماماً ، وحمدت الله الذي هداه إلى هذا الحلّ الأسمى الذي ارتضيته له خلاصاً ، بعدما كنت خائفاً عليه من ضعف ينتاب الحمير في اتّخاذ القرارات الحاسمة في أوقات كثيرة ، عادةً ، فيقدم على الاعتذار من صاحبه  ، ومساعدته في امتطاء ظهره  من جديد ،  وهذه الحال هي التي حفّزت الضبعي قديماً  إلى إلصاق المهانة بعير الحي والوتد ، ربما

قبريخا- جبل عامل

 

اترك رد