جميل الدويهي: أدب أم ماذا؟ دراسة في بنية قصيدة النثر ومعانيها/ الحلقة السادسة: قصيدة النثر… ما لها وما عليها

 

عندما يقول شاعر أو ناقد إنّ الشعر ليس مصوراً بشكل معيّن بل هو في جماليّته، فإنّه يعيدنا إلى نقطة الصفر، أي تفضيل الشعر على النثر. وهذا خطأ تاريخيّ، فالنثر أيضاً ينطوي على جماليّة فائقة، ولنا في نثر فيكتور هيجو، وغوته، وجبران خليل جبران أصدق مثل على أنّ الجماليّة ليست ماركة مسجّلة باسم الشعر، بل هي في النثر أيضاً، لكنّ العرب اعتقدوا خطأ بجماليّة الشعر. وهناك العديد من الناثرين الذين لا يكتبون شعراً، فهل كانوا جامدين، وبعيدين عن الرمز والتصوير الإبداعيّ؟

ولنفترض أنّ قصيدة النثر ذات جماليّة خارقة، فهل تختفي الجماليّة في الشعر الموزون لدى نزار قبّاني، ومحمود درويش، والسيّاب، وسعيد عقل والأخوين رحباني؟ وهل فشل هؤلاء في تقديم نصوص شعريّة بالغة العذوبة – على الوزن والقافية؟

يقول بشّار بن برد:

لو كنت أعرف أنّ الحبّ يقتلني      أعددت لي قبل أن ألقاكِ أكفانا.

ويقول البحتري في وصف بركة المتوكّل:

إذا النجوم تراءت في جوانبها      ليلاً، حسبتَ سماء رُكّبتْ فيها…

ويقول يزيد بن معاوية عن امرأة تبكي:

فأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت ورداً وعضّت على العنّاب بالبردِ.

ويقول محمود درويش في قصيدة ” يطير الحَمام… يحطّ الحمام”:

يطير الحمام

يحطّ الحمام

أعدّى لى الأرض كى أستريح

فإنّى أحبّك حتّى التعب

صباحك فاكهةٌ للأغانى

وهذا المساء ذهب

ونحن لنا حين يدخل ظلٌّ إلى ظلّه فى الرخام

وأشبه نفسى حين أعلّق نفسى على عنقٍ

لا تعانق غير الغمام

وأنت الهواء الذى يتعرّى أمامي كدمع العنب

وأنت بداية عائلة الموج حين تشبّث بالبرّ حين اغترب

وإنّى أحبّك، أنت بداية روحي، وأنت الختام…

وهذه القصيدة الرائعة تجري على تفعيلة المتقارب (فعولن)، وتعتمد القوافي، وليست شعراً منثوراً.

إن حصر الإبداع بنوع معيّن من الشعر يراد به الباطل، وتعويم حالة لم تنجح في الحلول مكان حالة أخرى، فمشت إلى جانبها، تحاول عبثاً أن تخرجها من دائرة الضوء.

وحتّى في قصيدة النثر هناك ضعف في الجماليّة لدى الكثيرين. ووصل التقعير في اللغة عند شعراء هذا النوع إلى حدّ لا يطاق، ولا يفهمه أحد. وهذه إشكاليّة ينبغي أن تعالج.

ولم ينجح الشعر المنثور في وضع معايير للإبداع، ففتح الباب واسعاً أمام موجة غير مسبوقة في تاريخ العرب من الشعراء من كلّ فجّ وعميق، فموريتانيا مثلاُ، وهي أبعد الدول العربيّة جغرافيّاً، تلقّب ببلد المليون شاعر، فكم مليوناً عندنا؟ وهل هذه ظاهرة صحّيّة؟ وما هي القواعد التي وضعت لمعرفة الشاعر من اللاشاعر؟

ونخشى أن نصل إلى يوم لا يكون فيه أحد من العرب غير شاعر، ويفوز بجائزة “من يربح المليون” إنسان عاش في غابة، ونسي أن يزعم أنّه شاعر.

يقول الناقد المصريّ سيّد جودة في مقالة نشرتها جريدة “الشعب” الجزائريّة: “أمّا عن سلبيّات قصيدة النثر، فإنّ من سلبيّاتها أنّها بإهمالها التامّ للوزن الشعريّ قد فتحت الباب على مصراعيه لكلّ مَن لم تكتمل أدواته الفنّيّة بالدخول من بابها، وإعلان نفسه شاعراً على الملأ.  لهذا نجد في السنوات العشر الماضية ازداد عدد الشعراء عن أيّ عقدٍ سابقٍ،  وذلك لسهولة كتابة أيّ نصّ والإدّعاء أنّه شعر. وقصيدة النثر بإلغائها للقواعد قد ألغت بالتالي أيّة مرجعيّة نقديّة، بحيث لم يعد من حقّ أيّ ناقد أن يجزم بأنّ هذا النصّ شعر وأنّ هذا ليس بشعر”…

ويقول جودة عن عدم تقبّل شعراء النثر للانتقاد، باعتبارهم كلّهم شعراء مبدعين:  “نجد كثيراً من شعراء قصيدة النثر يكتبون كلاماً مليئاً بالأخطاء النحويّة والكتابيّة، وإن واجهتهم برفق وأدب بهذه الأخطاء أخذتهم العزّة بالإثم، وكأنّك قد أخطأت خطأ جمّاً بتصحيح أخطائهم، وتجدهم يصرّون على أخطائهم، رافضين حتّى إصلاحها، وكأنّ كلّ ما يكتبونه شيء مقدّس… هذه السلبيّة الخطيرة كان من تداعيّاتها أن أصبح معظم ما يًكتب من قصائد نثر أبعد ما يكون عن الشعر، بصرف النظر عن كونه غير موزون. فحتّى بعد أن نقبل بعدم ضرورة الوزن للشعر طبقاً لما تدعو له قصيدة النثر، ونقرأها بحثاً عن معنىً جميل ، عن صورةٍ فذّة، عن تشبيه بديع, عن كلمة مؤثّرة,، لا نجد شيئاً سوى كلمات ركيكة تنقصها صنعة الخبير بأدواته، العالم ببواطن لغته التي يكتب بها، فتبدو القصيدة وكأنّها مترجمة عن لغة أجنبيّة، أو كأنّها لغة أجنبيّة لكاتب القصيدة”.

ويرى جودة أنّ المشكلة ليست في قصيدة النثر ذاتها، بل في معظم شعرائها أنفسهم، “فالرسّام له الحقّ في أن يرسم طبقاً لأيّة مدرسة فنّية، ولكن يجب عليه أوّلاً أن يتقن استخدام أدواته، فيعرف كيف يشدّ قطعة القماش على إطار، وكيف يستخدم الفرشاة والسكّين، وكيف يخلط ألوانه، وماذا سيكون نتيجة خلط هذا اللون بذاك. يحقّ له بعد ذلك أن يرسم ما يشاء ويعّبر عن نفسه في أيّة صورة تروق له… هل نجد هذا مع شعراء قصيدة النثر؟ نعم مع قليلٍ منهم ولا مع الغالبيّة العظمى. التجريب والتجديد حقّ مشروع للجميع، ولكن لا بدّ أوّلاً من إعطاء التجربة حقّها. أدونيس ونزار قبّاني وسعاد الصبّاح وغيرهم كتبوا قصائد نثريّة، ولكن بعد أن كتبوا دواوين من الشعر الموزون وأتقنوا الوزن والقدرة على الإبداع في ظلّه. هذا الإتقان للوزن والقواعد بمثابة شبكة السلك التي تضعها على نافذتك منعاً لدخول الذباب والبعوض وجلباً للهواء النقي ّفقط”.

يلفت الناقد جودة إلى مجموعة من المفاهيم الخاطئة التي أُسقطت على قصيدة النثر، ولعلّه يغمز من قناة مَن لا يعرفون العروض، فاتّجهوا إلى قصيدة النثر استسهالاً واختصاراً للطريق. وهذا من أهمّ العيوب، بل هو جواز سفر مزوّر ينتقل به الناثر إلى عالم الشعر.

أضف إلى ذلك أنّ شعراء النثر ينضوون في مجموعات متماسكة، فيكتب الواحد عن الآخر، ويمجّده، ويمدحه مديحاً عجيباً. ومن النادر أن تجد شاعر نثر يتحدّث عن قصيدة موزونة بكلام جميل… وتمّ تحويل هذا النوع إلى طائفة، فالأخ للأخ، بالروح والدم يفديه.

وذهب بعض السكارى بهذا النوع من الأدب إلى حدّ اعتبار المتنبّي غير شاعر، كما أنّ بعضهم يستخدم لغة الشتم والإقذاع والتشهير اللفظيّ البذيء بشاعر التفعيلة. وتطالعنا مقالات نقديّة كلّ يوم تقريباً تشنّ حملات شعواء على القصيدة العدوّة، فلا تبقي ولا تذر.

يقول الشاعر أسعد الجبوري، في مقابلة مع مجلة “الناقد العراقيّ”: “بعد قرون طويلة من توازن الأعمدة الخليليّة، لا بدّ من تجاوز الجاهليّات اللغويّة عربيّاً، وذلك بالتأسيس على نموذج شعريّ حداثويّ قابل لمواجهة عمليّات تجهيل الذاكرة بفضاءات المعاصرة أو تغريبها عن الحداثة التي تواصل تحريك مختلف اللغات والآداب والفنون في العالم، من أجل السيطرة علي العقل العربيّ وتركه مستمرّاً بتقديم القرابين والأضاحي للبنيات السلفيّة في الأدب وأصوليّات الأغلبيّة الكبري من الشعر العموديّ الذي لم يعد يفهم إلاّ من خلال الاستعانة بالقواميس والمعاجم”.

ومثل الجبوري، هناك الكثير الكثير من المقالات التي تهاجم الشعر العموديّ أو التفعيليّ، وتدعو إلى تجاوز “الجاهليّات”، و”الأصوليّات”، و”الشعر العموديّ الذي لم يعد يُفهم إلاّ من خلال الاستعانة بالقواميس والمعاجم”. وتعليقاً على كلام الجبوري نسأل فقط: هل صحيح أنّ الشعر العمودي اليوم  يدعو إلى الجاهليّة، وهل هو وجه أصوليّ؟ وهل هو لا يفهم إلا من خلال القواميس والمعاجم؟

المشكلة أنّ بعض المتحمّسين لقصيدة النثر،  باعتبارها وحدها شعراً، يسقطون الشعر المعاصر على الشعر القديم، فالشاعر العموديّ اليوم لا ينظم على نهج الحطيئة، بل يواكب العصر، ويهذّب لغته، ويتطرّق إلى قضايا جديدة، وليس في كلّ الشعر المعاصر، منذ الرابطة القلميّة، كلمة واحدة تحتاج إلى معاجم وقواميس. والأسوأ من كلّ هذا أنّ شعراء مبتدئين في قصيدة النثر، يكتبون محاضرات عن كيفيّة الكتابة، وكأنّنا في عصر الغستابو، ونخضع لنظام صارم يقودنا رغماً عنّا إلى نوع واحد لا يمكن أن نحيد عنه.

وفي الجهة المقابلة، هناك مناصرون للشعر التقليديّ، يربطونه بالتراث اللامتغيّر، ويصبّون جام غضبهم على قصيدة النثر، وهذا في رأينا أمر مرفوض أيضاً، وينبغي أن يُترك لكل امرئ حقّه في حرّيّة الإختيار، فيكتب في أي نوع يشاؤه، حتى ولو كان “غرافيتي”، والتاريخ هو الذي سيحكم على المبدع وغير المبدع. ويلجأ منتقدو قصيدة النثر إلى اتّهام أصحابها بتغريب الثقافة العربيّة وإخراجها من عباءتها الأصليّة، كما يتهمونهم بأنّهم لا يعرفون العروض، ولذلك لجأوا إلى نوع غير مقيّد بالأوزان هرباً من التفعيلة، واختصاراً للطريق نحو صفة “شاعر”.

وفي اعتقادنا المتواضع أنّ قصيدة النثر هي حالة مستوردة من الغرب، بيد أنّها أمر واقع اليوم لا يمكن إنكاره. ولا بأس أن يعدّد الشاعر في الأنواع. فمحمود درويش أصدر 5 مجموعات نثريّة، هي: يوميّات الحزن العاديّ (1973)، ذاكرة للنسيان (1987)، في حضرة الغياب (2006)، حيرة العائد (2007)، أثر الفراشة (2008)، ولم يذكر دوريش في المجموعات الخمس أنّها شعر. وهذا يؤكّد رأينا أن النثر جميل أيضاً ولا يشكو من علّة أو عاهة.

وليسمح لنا القارئ، ولو لمرّة واحدة، أن نشير إلى تجربة شخصيّة، خصوصاً أنّنا بنينا هذه المقالات على 30 نصّاً من الشعر المنثور نشرناها تباعاً.  وهذه التجربة تتمثّل في كتابة قصيدة النثر على السطر، مثل:

“كلُّ امرأةٍ لا تكونُ أنتِ لا أفهمُ كيف ولدتْ، وكيفَ يكونُ لها بيتٌ في قصيدة. كلُّ لحظةٍ لا تكونينَ فيها، لا أكونُ فيها. لكنّني لا أتحدّثُ عن ذاتي، لكي لا تصيرَ الكلماتُ غباراً… أحبُّ أن تكوني ملِكة، غابةً من الشجرِ والظلال، أذهبُ إليها، وأنحتُ في جذوعِها كلماتٍ كلمات.  والصمتُ عندما نلتقي هو معبدي. فدعيني فقط أتجوّلُ في عينيك الهاربتين. ومتى ستهدآن قليلاً، وتصغيانِ إلى ما أقول؟ مرّةً واحدةً أنظري إليّ… إلى شغفي وانتظاري. إلى وحدتي التي أصبحت زورقاً في ضباب. ويسألُني ملوكٌ جاؤوا من بابلَ وفينيقا: كيف أحببتَ امرأةً واحدة؟ فأجيب: هي الروحُ التي تسكنُ في جسدي، ولا أريدُ أن أصبحَ جسداً بلا روح”.

ونسأل مرة بعد أخرى: ما العيب إذا أعلن صاحب قصيدة النثر عن نفسه أنّه ناثر؟ وما المنطق وراء هذا الاندفاع الجنونيّ نحو صفة شاعر دون سواها؟

***

*د. جميل الدويهي: مشروع أفكار اغترابيّة  للأدب الراقي النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع

 

اترك رد