لم يعرف العرب في العصر الجاهليّ النثر، ولم يدوّن لهم نصّ نثريّ، كالقصّة القصيرة أو الرواية. وكلّ ما نعرفه من ذلك العصر، إلى جانب الشعر العموديّ كنوع شعريّ وحيد، هو سجع الكهّان، وقصص قليلة كانت تروى عن الكواكب والنجوم، وأقصوصة “الحيّة والفأس”، وتحكي قصّة أخوين راعيين وخلافهما مع الحيّة. وكلّ تلك النّثريّات كانت تروى رواية. وفي العصر العبّاسيّ، ظهر نثر معتبَر لدى ابن المقفّع والجاحظ، كما تُرجمت الفلسفة اليونانيّة، وظهر فلاسفة عرب كبار.
لماذا نبدأ بهذه العجالة عن النثر؟
فقط لنقول إنّ العرب لديهم شغف بالشعر، ويعتبرونه فوق النثر، والدليل ما يحدث اليوم، حيث أنّنا قلّما نرى أحداً غير شاعر، وحشود من الناس يريدون أن يكونوا نزار قبّاني، وبعضهم سمّى نفسه “خليفة نزار قبّاني”، و”شاعر المرأة”… وهذه تسميات لا تليق بأصحابها، لأنّ نزار قبّاني شيء وهم شيء آخر، ولا أحد يستطيع أن يكون مرآة لأحد آخر، وحتّى الحمض النوويّ والبصمات لا تتشابه بين إنسان وإنسان، ولو كانا شقيقين توأمين. كما أنّ نزار قبّاني كان يكتب الشعر التفعيليّ، ويشير إلى نثره على أنّه نثر، ولا عقدة عنده في ذلك، أمّا شعراؤنا الملهَمون اليوم، فلا يكتبون التفعيلة، بل يذهبون إلى أقصر الطرق وأسهلها لكتابة قصيدة، ثمّ يزعمون أنّها من مذهب نزار قبّاني. وما نقوله عن القبّاني نقوله أيضاً عن محمود درويش، والسيّاب، وسعيد عقل. وهذا الأخير يقلّده عدّة شعراء في لبنان، ويظنّون أنّهم مثله، وشتّان ما بين الثريّا والثرى.
لقد كان ابتكار قصيدة النثر في الخمسينات من القرن الماضي حدثاً غير صحّيّ، لأنّه فتح الباب واسعاً أمام الذين لا يعرفون الأوزان، ليخترقوا المحرّم، ومعنى “المحرّم” صعوبة الشعر القديم. فقصيدة موزونة تأخذ أيّاماً لكتابتها، وقصيدة النثر تأخذ دقائق. والسؤال: هل الشعر المنثور الذي جاء بعد قليل من أنماط ذكرناها في الحلقة الماضية (التفعيلة، والمدوّر، والمرسل) هو ابتكار عربيّ؟
في اعتقادي أنّه ليس ابتكاراً، فقد يقول عاشق لحبيبته كلاماً جميلاً، يسجّله على آلة تسجيل، ولا يكتبه في كتاب، ويكون شعراً منثوراً. ولو أخذنا مثلاً عظات السيّد المسيح، وبعض رسائل القدّيس بولس، ونشرناها بطريقة الشعر، لكانت شعراً منثوراً. وفي عام 1588، حوّل الدبلومسي الفرنسي بلايز دو فيجينير Blaise De Vegenaire مزامير داود النبي إلى الشعر الحرّ باللغة الفرنسية، وربّما كان هذا الرجل أول من استخدم تعبير الشعر الحرّ Le vers libre، وكان يقصد به آنذاك ما يشبه قصيدة النثر اليوم.
وعلى أيّة حال، فلو سلّما جدلاً أنّ هذا النوع مبتكر، ولم يكن موجوداً من قبل، فإنّ بودلير قد ذكره، ويمكننا أن نعثر في مسرحيّات شكسبير على كثير من المقاطع التي كانت تُعتبر نثراً في زمانها، ونقول إنّها شعر منثور، لما تحتويه من شعريّة في التعبير، وعمق في التصوير، وحكمة نابضة. كما نجد في كتابات روسو وشاتوبريان وفيكتور هيغو كثيراً من النثر الذي لو كتبناه بطريقتنا في هذه الأيّام لاعتُبر شعراً. والحقيقة أن شكسبير وروسو وشاتوبريان ربّما يستنكرون تسميتنا لنصوصهم بالشعر، ببساطة لأنّهم كتبوها نثراً.
أما الشاعر الفرنسيّ ألوسيوس برتراند (1807ـ 1841) فكان أوّل من اعتمد تسمية قصيدة النثر Prose Poetry، في نصّ له بعنوان “غاسبار الليل”، يقول فيه:
كان القمر يسرّح شعره
بمشّط الأبنوس
وهو يفضضُ بوابل من الحباحب…
الهضابَ والحقولَ والغاباتِ
كان سكاربو راصد الكنوز الفائضة
يذري فوق سطح منزلي
وهو يزعق مثل دوّارة الريح
دُوكا البندقيّة الذهبيّ
وفلورين هولندا الفضّي…
والقطعَ المزوّرة
التي كانت تغطّي الشارع…
ضحك المجنون بسخرية
وهو يذرع بلا هدف
كما في كلّ ليلة…
والمدينة الخالية
عينٌ إلى القمر
والأخرى مفقوءة… إلخ…
ويمكننا أن نكتب المقطع بطريقة النثر فيكون نثراً، كالتالي:
كان القمر يسرّح شعره، بمشط الأبنوس وهو يفضضُ بوابل من الحباحب… الهضابَ والحقولَ والغاباتِ. كان سكاربو راصد الكنوز الفائضة، يذري فوق سطح منزلي، وهو يزعق مثل دوارة الريح. دُوكا البندقيّة الذهبي، وفلورين هولندة الفضّي… والقطعَ المزوّرةَ التي كانت تغطّي الشارع…
ضحك المجنون بسخرية وهو يذرع بلا هدف، كما في كلّ ليلة، والمدينة الخالية عينٌ إلى القمر، والأخرى مفقوءة.
إنه شعر في الكتابة الأولى، ونثر في الكتابة الثانية.
ليس من روّاد عندنا للشعر المنثور، فقد اقتبسوه عن الغرب، كما الأنواع الأخرى التي جاءت خروجاً على القصيدة العموديّة، فشأنهم شأن من يأخذ اختراعاً من شركة أجنبيّة ويقلّده، ثمّ ينسبه لنفسه، فلا أدونيس، ولا أنسي الحاج، ولا محمّد الماغوط، ولا جبرا ابراهيم جبرا، لهم قصب السبق في هذا الابتكار، بل قد يكون الواحد منهم رائداً لهذا النوع في بلده، أي إنّه هو الأوّل الذي أدخله، علماً أنّ هناك من يقول إن أوّل من استخدم هذا النوع كان أمين الريحاني في مجموعة “هتاف الأودية” (1910). يقول ألبرت الريحاني في مقدّة “هتاف الأودية”: “لعلّ الريحاني (أمين) هو أوّل من عني بالشعر المنثور في أدبنا العربيّ، فكتب أوّل قصائده عام 1907” ( الصفحة الثامنة).
وللحقيقة والتاريخ، فإنّ أمين الريحاني لم يكتب قصيدة النثر، التي لا تعترف بالوزن والقافية، بل كتب الشعر المرسَل الذي يستخدم القافية ولا يلتزم بالوزن. فاسمعه يقول:
داويني ربّة الوادي داويني
ربّة الغاب اذكريني
ربّة المروج اسقيني
ربّة الإنشاد انصريني
ألا تذكرين يوم ردّدت وحيك بين قوم لا يشكون مع البعل إلها
يوم قدّمت ذبيحة للزهرة لا لآلهة سواها… إلخ (ص 36)
وكلام الريحاني ليس عميق الصورة، ولا يرقى إلى مستوى الشعر. ومثله أيضاً:
ما الذي تظنّه يدوم
من شرائع وعادات
من عقائد وخزعبلات
من دول وحكومات
من طوائف وجماعات… إلخ… (ص 14)
ومثلما تتعرّض أيّ محاولة للتجديد والخروج من تحت عباءة التراث، لموجات النقد، تعرّضت قصيدة النثر لنقد عنيف من المتمسّكين بالقصيدة القديمة، وكذلك المتمسّكين بأهداب التراث عامّة، فربطوا بينها وبين محاولة لتدمير الموروث. وانقسم الشعراء أيضاً، فنازك الملائكة رفضتها، بينما روّج لها أدونيس، ومحمّد الماغوط، وأنسي الحاج، وجمهور غفير وكاسح من شعراء هذا النوع.
***
*جميل الدويهي: مشروع أفكار اغترابيّة للأدب الراقي النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع