جميل الدويهي: أدب أم ماذا؟ دراسة في بنية قصيدة النثر ومعانيها الحلقة الثانية: تطوّر الشعر العربيّ القديم

 

التحديث في المفهوم العامّ، هو تطوّر الأشياء من حال إلى حال، وتغييرها من القديم إلى الجديد. والعالم كلّه موضوع للتغيير، فما شهدناه في العلم مثلاً خير دليل على أنّ عجلة الحياة لا  تتوقّف، وطموح الإنسان في الانتقال من حال إلى حال عمليّة متواصلة، والهدف منها بلوغ كلّ ما يسهّل المعيشة، ويجعلها أكثر تناولاً. وقد كان الناس قديماً يتحدّثون عن القمر على أنّه لا يُبلغ، فإذا به في القرن الماضي، يصبح جرماً مفتوحاً للمكتشفين ورائدي الفضاء. وعندما قال غليليه بكرويّة الأرض جرى تكفيره ومحاكمته، ثمّ ثبت بالدليل القاطع أنّ الأرض كرويّة، وهكذا. ومن ينظر إلى السيّارات الأولى، في شكلها وهندستها، وأدائها… ويقارن بينها وما هي عليه سيّارات اليوم، يدرك أن التحديث عمليّة شبه آليّة، تقودها إرادة البشر وسعيهم الدائم إلى تطوير أنفسهم. وما ينطبق على التكنولوجيا، نجده أيضاً في اللباس، والموسيقى، والطعام، والفنون جميعاً.

جاء في مقدمة ابن خلدون (ص 28) :”وذلك أنّ أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقرّ، إنّما هو اختلاف على الأيّام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول”.

وكلام ابن خلدون يؤشّر، ربّما قبل داروين إلى تطوّر الحياة كحالة طبيعيّة.

والشعر العربيّ القديم تعرّض لتغييرات محدودة، فبعدما كان مزدهراً في العصر الجاهليّ وتناول مواضيع الخمر والنساء، انكفأ في العصر الإسلامي عن تلك المواضيع، ليختصّ فقط بالدعوة الإسلاميّة. وكان من المحرّمات قول الشعر في الخمر والنساء. وعاد الشعر إلى سيرته الأولى في العصر الأمويّ.  ثمّ في العصر العباسيّ، بسبب ظروف الحياة المتغيّرة، ودخول ثقافات غريبة على المجتمع العربيّ، ومعرفة العلوم والفلسفة والترجمة، وشيوع مظاهر حياتيّة جديدة، كالخمّارات، والراقصات والقيان. ولعلّ أهمّ المجدّدين في الشعر العبّاسي أبو نوّاس، فقد طرق مواضيع كانت من المحرّمات، وغيّر في بنية البيت، تماشياً مع الغناء، ليصبح الوزن العروضيّ قصيراً ومجزوءاً:

حامل الهوى تعبُ

يستخفّه الطربُ

إن بكى يحقّ له

ليس ما به لعبُ

كلّما انقضى سبب

منكِ عاد لي سببُ

تعجبين من سقمي

صحّتي هي العجبُ.

وبينما بقي المتنبّي وابن الرومي يدوران في فلك القصيدة التقليديّة، كان أبو نواس وبشار بن برد والبحتري طليعيّين في التجديد.

وفي المقلب الآخر، أي في الأندلس، شهد الشعر العربيّ تطويراً مهمّاً فدخل عليه الزجل (يختلف عن الزجل اللبنانيّ)، والموشّح. وتاثّر الشعر العربيّ الأندلسيّ  بالطبيعة التي تختلف اختلافاً جذريّا عن مثيلتها في الصحراء العربيّة.

وعلى الرغم من هذه المحاولات التجديديّة المحدودة في العصور القديمة، فإنّها لم توجد لنا نوعاً من الشعر مختلفاً، فالتجديد في المعاني لم يواكبه تجديد في بنية القصيدة، وظلّ العروض مهيمناً على الشعر العربي حتّى ما بعد عصر النهضة (أحمد شوقي- خليل مطران – الباس أبو شبكة – جبران خليل جبران – ابراهيم ناجي… إلخ) . وبدا في كلّ هذه العصور أنّ الوزن مقدّس، ولم يخطر في بال أحد أن يغيّر في العروض، ما عدا محاولة هزيلة جدّاً من أبي العتاهيّة (عبّاسي) الذي كان يخالف العروض قليلاً، ربّما لعدم انتباه منه،  فيُسأل عن ذلك، فيقول: “سبقتُ العروض”، و”أنا أكبر من العروض”.

***

*جميل الدويهي: مشروع أفكار اغترابيّة  للأدب الراقي النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع

اترك رد