جميل الدويهي: أدب أم ماذا؟ دراسة في بنية قصيدة النثر ومعانيها

 

الحلقة الأولى

بعد نشر 30 نصّاً من الشعر المنثور الذي له عندنا تسميتان “النثر الفنّيّ الجديد” و”نثر أو شعر”، يمكننا أن نستخلص مجموعة من الحقائق، بناء على النقاط التي طرحناها في المقدّمة. لكن قبل ذلك، نودّ الإضاءة على أمرين مهمّين، هما صلب موضوعنا: الشعر العربيّ القديم، ونثريّة القصيدة الحداثيّة.

1- في الشعر العربيّ القديم: بدأ الشعر العربيّ في عصر ما قبل الإسلام (الجاهليّ) قائماً على موسيقى، وضعها العرب، ليس للتمييز بين النثر والشعر، كما يعتقد البعض، بل لأّنهم رأوا أنّ الشعر كالموسيقى، له ضوابطه وتنظيمه، فكما لا يتقبّل الذوق موسيقى النشاز التي لا تجري على النوتة والنغم الصحيح، فكذلك الشعر، فإذا كان غير قائم على النوتة الشعريّة، لا تقبله الأذن ولا الذائقة.

والبحور الشعريّة لم تكن موجودة عند العرب القدماء، ولم يكونوا يتبعونها، ولم يكن الشاعر يضع الوزن أمامه ويكتب القصيدة عليه، بل كان ينظم شعره سماعيّاً، فقد ألفوا الأوزان كما نألف اليوم النظم على الدلعونا والهوّارة والعتابا، من غير تفكير في البحر العروضيّ، أي على السمع. وعندما وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي البحور الشعريّة، لم يخترعها اختراعاً، بل أخذها من مجموع التراث الشعريّ الذي كان محفوظاً، فعمله كان تبويباً لما هو موجود وليس ابتكار الأوزان لكي يجري الشعر عليها. وعملية التبويب هذه تشبه عملية تبويب القواعد على يد أبي الأسود الدؤلي، فقد كان العرب يتكلمون الفصحى، ويعجبون ممّن يخطئ في النحو، كأن يرفع المفعول به وينصب الفاعل. وجاء الدؤلي فيما بعد، فبوّب القواعد بحسب ما هو موجود في التراث. ولو كان الخليل بن أحمد الفراهيدي وأبو الأسود الدؤلي قد عاشا قبل امرئ القيس، لما احتاج إلى ما توصّلا إليه، لا في نظم الشعر ولا في النطق بلغة صحيحة.

وانطلاقاً من العلاقة بين الشعر والموسيقى، كانت العرب تصف الشعر الجميل بالشعر الغنائيّ، وكان امرؤ القيس يغنّي شعره، وكان الأعشى يسمّى “صّاجة العرب”، والصناجة آلة موسيقيّة.

ولقد أخطأ الدارسون العرب في التمييز بين الشعر والنظم، ففي رأينا هناك شعر أو لا شعر. ولكي يكون القارئ على بيّنة من صحّة ما نذهب إليه، نعرض بيتاً لعنترة وبيتاً آخر للشاعر المملوكي علي بن سودون. يقول عنترة:

وكأنّ أنفاسي إذا ردّدتُها           بين الطلول محتْ نقوش المبردِ

ويقول ابن سودون:

الأرض أرض والسماء سماء          والماء ماء والهواء هواء.

فبيت عنترة شعر، لأنّ فيه صورة تعب عليها وأوجدها بما يشبه السحر، وهو أنّ أنفاسه بين الأطلال قد محت خطوط المبرد. وهذا شعر جميل. أمّا قول الشاعر الآخر، فسطحيّ، يقول الحقيقة العارية التي يعرفها الجميع، وقد ينطق بها طفل صغير. فهذا لا شعر.

لماذا ننكر تسمية “نظم”؟

بكل بساطة، لأننا لا نؤمن بأن هناك شعراً يقال ارتجالاً، إلاّ ما ندر، كأن ينظم الشاعر بيتاً أو بيتين، وربّما أكثر قليلاً في خاطرة سريعة. أما أن ينظم قصيدة كاملة متكاملة، في ما يقال إنّه ارتجالي، فهذا أمر في غاية الصعوبة ويلامس المستحيل. وقد شهدتُ بنفسي شعراء عامّيين، يخبرونك أنهم يرتجلون، ثم تجد القصيدة التي ارتجلوها موجودة في كتاب لهم، فهم قوْلبوا القصيدة  المكتوبة نفسها وغيّروا فيها أسماء الأشخاص والأماكن، وقالوها ارتجالاً، أي من غير قراءة، فظنّ السامعون أنّها فعلاً من قريحة الشاعر، وقد ولدت للتوّ. والغريب أنك تسمع القصيدة نفسها في عشرين مناسبة مختلفة، مع تغييرات قليلة بحسب المكان والزمان.

ولكي نعرف إذا كان الشاعر يرتجل أم لا، فلنعطه موجوعاً نادراً، كجذع الشجرة مثلاً، ونطلب منه أن يرتجل عنه، فعند ذلك سينكشف أمره، إلاّ إذا كان حاذقاً، وتمكن من استخدام قصيدة من محفوظاته، ليركّبها  تركيباً على الموضوع المعطى له، وهذا أيضاً من الصعوبة بمكان.

وإذا كان هناك شاعر لا يرتجل، فهو لا يحفظ كثيراً لكي يستطيع يطبّق المحفزظ على ما يريد أن يقوله في الزمن الحاضر.

فجميع الشعر إذاً هو نظم، بعضه نظم جميل، وبعضه نظم سطحيّ. وكان زهير بن أبي سلمى يلقّب بشاعر الحَوليّات، لأنه كان ينظم القصيدة في حول، والحَول هو السنة. فكيف كان يرتجل إذاً؟ وهناك رواية عن قصيدة “اليتيمة” تثبت أن شاعرها كتبها قبل أن ينطلق إلى اليمن ليقولها أمام الأميرة دعد، وقتله رجل في الطريق وسرق القصيدة منه، فكيف تكون ارتجالاً؟ وكيف تكون قصيدة ابراهيم ناجي “الأطلال” مثلاً ارتجالاً وقد كتبها في سنوات طويلة كمقاطع متفرّقة، ومثلها “الطلاسم” لإيليا أبي ماضي؟

ليس عيباً النظم في الشعر. وكان نزار قباني شاعراً مكتبيّاً، أي كان يجلس إلى مكتبه ويتعب على القصيدة، فيكتبها ويدقق بها ويغيّر فيها قبل أن ينشرها. وقد عرفت شعراء يكتبون القوافي على دفتر، وينشئون القصيدة تركيباً على تلك القوافي، وهذا ليس عيباً، ويُستخدم في الشعر المغنّى، بشرط أن يكون الشاعر مبدعاً، ولا يلاحظ أحد أنّه كان يلاحق القوافي بتعب، أو جاءت قوافيه مبتذلة ومنهكة.

وما نقوله عن القافية نقوله عن الوزن نفسه، فقد ينظم شاعر قصيدة من غير أن يستخدم العروض، أي سماعيّاً، فتأتي قصيدته صحيحة ومبتكرة وجاذبة، وقد ينظم شاعر آخر على العروض، ويجتهد في تركيب الألفاظ على التفعيلات، وتأتي قصيدته أيضاً جميلة ولا عيب فيها.

خلاصة هذا الشقّ من المطالعة:

1- الشعر القديم مبنيّ على الموسيقى، كعلم النغم.

2- هناك شعر أو لا شعر. والنظم نفسه الذي عابته العرب، قد ينمّ عن شعريّة وإبداع.

***

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني  النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع

اترك رد