فاطمة سعد الغامدي
(السعودية)
ليلة البارحة حدثت مشادة بيني وبين حظي، كلانا يتبرأ من الآخر وللحقيقة ياحظي وللشفافية التي اتميز بها فأنت من اعترض طريقي ولست أنا …
ليتني لم أنطق ذلك فقد قعد من نومه وأرسل نظرات أكثر سوادا مما ارتكبته يداه ، ويبدو أن الأخ نام طويلا خلال النهار بينما كنت أصارع الأحداث والمواقف والوجوه ، كنت أبحث عنه شزرا وهاهو يحتسي قهوة وسهرا ..
حسنا ياحظي النائم ، أريد أن أنام فغدا يوم يعلمه الله ، وباختصار لا أريدك ولم أكن أريد هذه الأرض، كان لي رغبة في كوكب آخر، خالتي قبل وفاتها العام الماضي تأملتني طويلا؛ ثم قالت: أتقول أنك لم تكن تريد الأرض؟ هل تعلم أنه يوم ولادتك تعثر شيخ قريتنا في قطعة حديد في ساحة منزله ومات على الفور؟! وكادت والدتك تموت جوعا حيث لم يهتم لولادتك أحد ، ولم تزرها نساء القرية فقد انسحب الجميع للعزاء وتركوها وحيدة ، كنت ابتسم أكثر من خالتي التي ضغطت على أسنانها وهي تقول ثم مر عامان وتوفي أبوك شابا وسيما دون مرض وتلته أمك حزنا عليه .. وأنت تبتسم وكأن أمرا لم يحدث ؛
تعالى أزيز ضحكاتي وقلت ياخالتي ومن قال إن شيئا لم يحدث؟!!! لقد مرت الأيام وعمي وابناؤه يرفلون في إرثي بينما أنا مشرد بائس وأنت عروس لايشغل بالها سوى زوجها وأمه وحلم العشرة أطفال؛ أتى الأطفال ودرسوا وأصبحوا أطباء ومهندسين ومعلمين وابنتك الجميلة ،فتحت خالتي عينيها ياحظي فخفضت نظري ومسحت دمعتي وألقمت فمي خبزا يابسا كي أصمت …
حظي يحتسي قهوته حتى آخر قطرة فسبحان من وهبه ثقلا وغلظة ، نام وتركني احتسي دمعا باردا ، لأنني لم أعد اكترث ، أواجه كل شيء في هدوء مميت واستقبل كل شيء وكأنه ثلج ، نم ياحظي نام حظك.
أرسم وجه ابنة خالتي على الورق – هوايتي التي لن ينافسني فيها أحد أو يسرقها مني – لبنت خالتي عينان تخترقان حجب قلبي المثقلة والمترهلة في آن واحد وشفتان بطعم الكرز تنتفضان عند الخوف أو اللهفة لا أدري، اتذكر عندما أفزعتها ذات مساء؛ ظنت المسكينة أنني عفريت خرج للتو من مزرعة المنزل المكتظة بالأشجار وبالعصافير النائمة ، شعرت بالخجل والألم ، فاقتربت مني ياحظي النائم وتناولت يدي بين يديها الناعمتين كسرير ، يعلم الله أنني لم اشعر بنفسي إلا وأنا هنا بين يديك …
شعرت اليوم التالي وأنا أتأهب لمغادرة حظي أنني أخف حملا فقد تحدثت كثيرا ، يا للغرابة أيريحنا الحديث رغم الجوع والعطش والشوق ؟!!!! كنت أغني وأنا استقبل ماء دافئا بدا للحظات أنه يحضنني وانا أضحك ، خرجت وأنا منتعش ، قابلت مديري الذي يغضب لتأخر موظف عنده وكأن القيامة ستقوم ذلك أنه لم تقم قيامته ، لم يفقد أبويه ، ولاماله ولاحبيبته ، قررت أن ابتسم ، ويا للمفاجأة حين ابتسم ، ثم قال : لقد بكرت اليوم على غير العادة ، لوكان لدى مديري الفاضل فائض من الوقت وضحت له أسباب تأخري ، لكنه قطب جبينه لقدوم زميل آخر وقال لا ، لاوقت لدي لأسمع مبررات مكررة ، مضيت نحو عملي الممل ومضى نحو زميل أقل صبرا مني ، وماهي إلا ثوان حتى سمعنا صراخا وعراكا. ، يا إلهي . أسأل الله أن يغفر لي فقد شعرت بالسعادة وهم يضمدون جروح المدير بينما الموظف الآخر كان يصرخ ويقول لست بحاجة لوظيفة تديرها أنت ، لقد أتيت لأمضي الوقت إلى أن يتم قبولي في وظيفة تناسب شهادتي.
سامح الله أبي الذي يرى أن مثل هذه الوظائف تصقل شخصيتي ، ومضي ، كان زميل آخر يقول إنه ابن فلان الفلاني . قلت نعم الآباء حينما يكبرون يرون الدنيا بمنظار قاس وبحكمة خانقة . قال زميلي : كن مهذبا وأنت تتحدث عن الآباء ، حسنا فلنعد للعمل كي نكسب رغيفا وفنجانا من الشاي الأحمر القاني وشردت بذهني، انزوينا في ركن خفي ، ليمضي الوقت دون أن نشعر ، ما ألذ الوهم!!!! وما ألذ وجه حبيبتي … وما أجمل التحرر من حظي… عدت إلى البيت، ألقيت بنفسي وبأحمالي على سريري ، كان جهازي يرن ، هذا الجهاز الذي أهدتني إياه ابنة خالتي ووضعت لي شريحة فيه وقالت فاتنتي: هذا لك كي تغرد أو تفني …. إنه هدية يا أخي .. لماذا؟ يا ابنة خالتي تقدمين لي هدية توهمني بوجودي وسعادتي وحظي وأن الأرض أرضي ، ثم تصفعينني بقولك يا أخي ؟!!! سقط الجوال من يدي غضبا وصدمة وحرقة … مضت وأنا اجمع ما تناثر منه وأخفي وجهي ، لقد أيقنت أن الفتي الذي لم يبك بين يدي أمه يبكي على الملأ وفي كل مكان وفي كل لحظة وبكيت يومها كطفل صغير.
العمل منهك ، حارس أمن مستباح الكرامة والمال والجهد ، بإيعاز من مديري أعمل اثنتي عشرة ساعة واقفا كسارية ولكن دون شموخ ، كجندي ولكن دون هيبة ،تساءلت قبل العمل لماذا يريدني مديري أن أعمل ولم أكتب العقد بعد ؟! أليس العقد يحتوي اتفاق طرفين وراتب تعاقد وشروط ؟!! تلبسني قلق عجيب ، لكن حظي المخاتل قال لي بلغته العنيفة يا فاشل! يا عاطل جرب هذا الشهر ، كدت ألعنه ، شهر أيها الظالم ؟! اضرب اثني عشر ساعة في ثلاثين يوما؟ لا قوانين تحكمهم ، لامبادئ ..لاشيء أمامي سوى أن أسير خلفك ياحظي ، سرت خلفه ، ذهبت للخياط وجهزت بدلة بعد أن اقترضت قيمتها من صديق ، ما أن يقرضك حتى يعود يطلب القرض قبل أوانه، وبدأنا العمل ولاحظت أنني أفضل من آخرين لايملكون سيارات رغم أنني لن أحصل على بدل نقل ولابدل سكن ، الحياة قاسية ياحظي، انشغلت كثيرا عن ابنة خالتي ولا أجرؤ على الاتصال بها وبثها أشواقي واحتياجي كقطرة ماء باردة في هذا اليوم القائظ ، كترياق سموم في صحراء بعيدة يجب أن تصبر كي تحصل عليه لكي تنال حبيبتك ، أعود منهكا ، أغسل بدلتي وأنام باكرا بعد صلاة العشاء لأكون في مقر عملي مع ساعات الصباح الأولى .
شهر كامل مر ، كيف مر هذا الشهر ؟! لاأعلم واليوم يوم الراتب الذي لم يكتب عقده وراتبه حسب التخمينات خمسة آلاف ريال ، سأحلق ذقني ولابأس بحمام ساونا ، وربما اشتري هدية لابنة خالتي وأصلح سيارتي ولابأس أيضا بوجبة دسمة مرة في الشهر وسأضع المتبقي في البنك، أطللت بوجهي تجاه حظي فوجدته نائما، اطفأت نور الغرفة ومضيت. لم أقابل زميلا مبتسما هذا اليوم، الوجوه مكفهرة، والنظرات زائغة واليأس يعلو الوجوه، مضيت مسرعا استلم (شيكي).
ابتسم مديري حين رآني وبحث عن شيكي وأعطاني . فتحت الشيك بسرعة ، ألفان وخمسمئة ؟!!! صرخت ماذا أفعل بها وهل هي أجر اثني عشرة ساعة لمدة ثلاثين يوما؟!! قال نعوضك الشهر القادم يابطل . بطل ؟؟! بطل في تحمل الظلم والقسوة ، بطل في العمل أكثر من ساعات الدوام الرسمية . بطل في العمل دون عقد بطل في استلام راتب خصم أكثر من نصفه ..للحظه خطرت في بالي أن أمزق الشيك وألقيه في وجهه فأنا غني جدا بكرامتي وهو فقير جدا بأكل أموال الناس ، لكنني تذكرت صديقي الذي أقرضني ثمن البدلة . تذكرت هدية حبيبتي ، تذكرت أحلامي الباهتة.
هل أبكي ؟؟ هل أصرخ ؟ هل أوسعه ضربا ،؟؟ لم يكن أمامي سوى نائبه يطلب مني أن أوقع على الاستلام ، لقد هرب كلص ، لم أجد أحدا من زملائي في الممرات ولا أريد أن أجدهم ( فاكفهرار وجهي يسد نفس بلد بحاله). ركبت سيارتي وسرت على غير هدى ، عدت دون أن أقدم استقالتي ، تذكرت بعض الشائعات والنصائح بأننا عندما نمضي دون ملفاتنا فقد يتم توظيف أجانب فيها يرضون بانتقاص رواتبهم وتبدو الشركة وكأنها توظفنا وتدعم السعودة …
اللهم افرغ علي صبرا كصبر أيوب .. هاعدت عاطلا فاشلا كما يرى الأقارب، لاأصمد في عملي أكثر من شهر .. تحدوني رغبة شديدة في بث معاناتي ومعاناة زملائي عبر وسائل التواصل لأن الظلم يكوي قلبي ،وإن سكت عن حقي فلن أحقق أحلامي ؛ حيث أن الأحلام ليست وقفا على وسائد النوم الفاخرة وأسرة النوم الحريرية الأحلام ملاذنا نحن المتعبون، المنهكون أحلامنا كلمة حانية ويدان دافئتان وقلب ينبض كي نستمر في الحياةً، أحلامنا ليست دفاتر شيكات ولاشراء مؤسسات ننتظر افلاسها لننقض كصقر جارح..
كان سائق خالتي يهرول نحوي مبتسما، يدس في يدي بطاقة جميلة ، فتحتها في لهفة بالغة، وشوق ظاهر، إنها دعوة زواج ابنة خالتي على ابن عمي، لاشيء الآن سوى مزيد من اليأس والقهر والبكاء حتى وإن التقط عابر صورة دموعي ونشرها ليتسلى المتخمون عليها ويكتبون عباراتهم المنمقة. ولكن لم الغضب أيها المنسلخ عن حظه ؟!! هل كانت تحبك أم تشفق عليك؟ لماذا لانفرق نحن البؤساء بين الحب والشفقة؟ حسنا ياعاطل لن تتزوجك فتاة أو تنتظرك وأنت شهر تعمل وآخر تبحث عن عمل ، لن تنتظرك فتاة وأنت تتسول حقك من مدير لاتعرف إلا كنيته ، كما لو أنه رئيس منظمة ارهابية وتجده يوما ولاتجده يوما آخر ..
ومضى وحيدا دون أحلامه ودون وجهها الذي طالما زاحم قسوة الأيام في عينيه … مضى يبكي بصوت عال، يفزع الريح النائحة، تركض وهو يتبعها كقشة ..