رواية “ارتحالات يعقوب النجدي” (الفصل الأول)

 

خالد اليوسف

                        (السعودية)

 

تنسج الأسئلة خيوطاً ملونة في رأس يعقوب، حتى باتت رداءً مفروشاً؛ يتحرك في أوقات معينة، ليكشف عن عمق جذورها! وفي أوقات أخرى، يكون ساكناً ليغطي حراكها ويدثر إثارتها لأوجاع تطارده منذ وقت مبكر. إلا إنها تحركت بعد اهتزازات السنين، لتستنير عما تراه! فهل يكون الحلم رؤيا؟ أم تكون الرؤيا حلماً؟ شتان ما بين الحقيقة والخيال! بين هلوسات شيطانية، وأوهام خرافية، وفقاعات الأمعاء المتطايرة في تجاويف الجسم! واليقين ببشارة الفجر، وضياء الروح المطمئنة، وسكينة النوم المؤمن! البون بينهما لاحدود له، إلا أنهما يتجددان في ليله ونهاره! بل إن الليل الطويل يحول مناماته إلى حياة أخرى! يحول شقاءه ولهاث النهار إلى هدوء وسكينة، وأمل قريب. ما الذي يشعر به يعقوب، ويراه عند وضع رأسه على وسادته؟؟

يعيش حياتين متباينتين! هي الأحلام تطارده، ثم تتكون رؤى واسعة الآفاق المكانية والزمانية! أي حياة هذه التي تعيش على الخيال، وتغص بها حياته اليومية؟

هو المكان الضيق الصغير أمام عينيه، بيت طيني مشتت الحجرات، وفناء واسع يتوسط المكان بينهن، ويحيط به نخلات عطشى، وبئر يتردد الماء في قاعها، صعوداً وهبوطاً، بئر تبعث على وجود الحياة، بئر تستجدي المطر النادر. وهنا سنبلات يابسات لا ترتوي من ماء قليل، وبذور أخرى، لا يعلم أن لها فائدة، تشبعهم في أوقات المسغبة.

تطارده هذه التفاصيل كلما غرق في نوم تعب، وفي نوم طويل الغياب، وهو إغماء يتلبس النوم..  كأنما هو غيبوبة لاحدود لها!

كثيراً مايرى أنه في حال أخرى. يرى مالم يره منذ ولد وترعرع، وكبر وشاخ، والرؤى تأتي إليه في أي مكان، يضع رأسه فيه، تجثم عليه، لتحلق به بعيداً عن مسقط رأسه،. إنه يرى عوالم لا يدرك معناها، ولا يعلم عن تكوينها وفحواها شيئاً. لكن خيال امرأة عفيفة طاهرة. تتعبد؛ هو ما يتكرر عليه في كل حلم!

من سيكون بجواره ليسمع منه ما يراه، ويتردد ويتكرر عليه. لكن شقيقه يونس سمع منه بعض الحكايات، التي يرددها بين وقت وآخر على جليسه، وغالباً مايكون من أبن عمه، موسى شبيه تفاصيله، وهو أخوه من الرضاعة، جلس بينهما ذات ضحى، وقال:

-نصحتك كثيراً يايعقوب، استعذ بالله من الشيطان الرجيم عند نومك، اطرد الشيطان بالبسملة، فأنت كثير الهواجس والاحلام والفزع، والخوف يطاردك. عليك بالصلاة على النبي. وقد سمعت من الكبار هذه النصائح لنا جميعاً، لكن حديثك عن المرأة تكرر كثيراً، وسمعتك في أكثر من مكان تردد علينا أنها جاءتك في المنام، وفي مواضع مختلفة… يايعقوب كلامك عنها يجمع لي خيوطاً كثيرة؛ تنسج لي صورة أمي! أمي التي لم ترها، ولم تذق طعم حليبها، ولم يدفئك صدرها وحضنها الرحيم. أنت ترى أمي التي لم ترها.. فأكثر لها الدعوات يايعقوب!

أهي حقاً أمه أم امرأة أخرى؟ لماذا هو الذي تغادر أمه حياته فحسب، قبل أن يراها ويعرفها؟ لماذا ليس له أم كالآخرين؟ أي امرأة هذه التي ترحل، وقت سعادتها وفرحها بمولودها؟ هكذا ردد يعقوب كلماته وأردف: إني لك في شوق قاتل يا أماه!

***

 

*الفصل الأول من رواية “ارتحالات يعقوب النجدي” التي ستصدر قريبا عن مؤسسة الانتشار العربي.

 

اترك رد