حنان الصّخر ووفاؤه

 

  د. علي حجازي

 

توقف بلال مع والده عند مسقط مياه الشلّال مدهوشاً، لا يعي ما يجري؛ فالمشهد أخّاذٌ، ملك عليه كل حواسّه التي شرعت تتمتّع بتفاصيل تلك اللوحة البديعة. عيناه منشدَّتان إلى سبائك الفضّة المُذابة النّازلة شفّافةً، تتناغم خيوطها، وتتقاطع لتشكّل في مواقع معيّنة ما يشبه قوس قزح. أصاخ السّمع. كان خرير الماء المتساقط يعزف سمفونيّةً رائعةً. أغمض عينيه قليلاً، فاسحاً المجال لرذاذ الماء البارد المتناثر برشاقةٍ، أن يمسح على وجهه بعذوبةٍ متناهيةٍ، ليبعث فيه حيويّةً ونشاطاً.

مدّ كفّيه… ولمّا امتلأتا أدناهُما من شفتَيْهِ، وشرع يشربُ نَميراً لذيذاً، مانحاً حاسّة الذوق عنده فُرصة مُشاركة شقيقاتها الاستمتاعَ بِدَسَمِ هذه المائدة الجماليّةِ الفريدةِ.

-ما أصابك يا ولدي؟ كأنّك في عالمٍ آخرٍ!

قَطَعَتْ عليه كلماتُ الوالدِ الرِّياضةَ الّتي كان يُمارسها بِصَمتٍ.

مسح وجهَهُ النديَّ وقال: “أبي، أيُّ نعمةٍ هذه الّتي نرى؟ ﴿وجعلنا من الماء كلَّ شيءٍ حيّ﴾، صدق اللهُ العظيم”.

توقّفَ قائلاً، وتابع:

-إنّي أُسائِلُ نفسي، مُذْ وصَلْتُ، عن سعة صدر هذا الخزّان الذي استطاع احتضانَ كلّ الماء الّذي نزف، مع ذلك المُنتظِرِ دوره إلى عالم النّورِ.

-إنَّهُ حِضن الصّخر الأمين، يا بُنيَّ.

-وكيف تكون أمانةُ الصّخر؟ لا أعرف.

-الصخرُ الأمين هو الصّخر الحاضن الّذي يؤدّي للحياة وظيفةً جليلةً، هي وظيفة جمع الماء، وبعثه شلّالاتٍ وينابيعَ وأنهراً، تسقي الكائنات، لا تُميّز بين كائنٍ وآخر، تبعث الحياة في الجماد، وتعيد الرّوح إلى الموات.

-أنت مَنحْتَ الصّخر صفة الأمانة. وهذه لا يستحقّها إلّا الصّفوة من بني البشر. أَلِهذه الدّرجةِ هو مُهمٌّ يا أبي؟

-أجل، يا بنيَّ. لولا سَعَةُ صَدْر الصّخر، واحتضانه ماء المطر والثّلج، لذهب إلى أعماق الأرض، ولسار إلى البحر بسرعةٍ، حارماً الكائناتِ الحياةَ. ونَسِيْتُ أن أحكيَ لك عن تسامحه.

-هل الصّخرُ مُتسامحٌ أيضاً؟

-نعم. فهو يترك مساربَ ليمنح الماء فرصة الوصولِ إلى هذا الحضنِ الواسعِ الأمين، حيث يتجمّعُ ويتجمّعُ، ثمّ ينبعثُ كما ترى. ويسمحُ الصّخرُ لجذورِ الأشجار والنباتات بأن تدخل شقوقه، لتنعم ببرودته غذاءً؛ فتنمو وتُعرِّش وتعلو وتزدهر.

غامت عينا بلالٍ، وراح يُردّد:

“مِكّرٍّ مِفَرٍّ مُقبلٍ مُدبرٍ معاً كجُلمودِ صخرٍ حَطّهُ السّيلُ من عَلِ”

فقد استعاد صورة الشاعر الجاهليّ الذي نعت حصانه بجملود صخرٍ، ثمّ همس في سرّه: “كيف لحصانٍ يمتلك المرونة أن يُشبَّه بصخرٍ؟”

-أيعني الشّاعرُ صلابة الحصان يا أبي؟

-والله، إنّي أفكّر في ما تفكّر فيه، وأسألُ نفسي في وجه الشّبه غير المُتناسق مع المعنى هنا، وأقول: كيف لحصانٍ مَنَحَ حلبة الصّراع حيويّةً، يفِرُّ ليكُرَّ من جديدٍ، ويَكُرُّ لِيَفِرَّ؟

-هل الصّخرةُ النّازلةُ تصعد ثانيةً؟

-لا أراها تَعودُ.

-إذاً التّشبيه غيرُ دقيقٍ، والصّخر ليس جُلموداً في ذلك الموقع؛ لأنّه عندما يحطّه السيل من عَلٍ، قد يتكسّرُ، قد يتفتّت، أو قد يُصيبُ من الآخرين مقتلاً. فأنا بِتُّ من الآن، أُحبُّ الصّخر المتسامح الحاضن لنا ماءً يتفجَّرُ حياةً، بعدما أحببته صُلباً مثالاً للشّموخ والبقاء.

-أجل، فهذا الصّخرُ قدَّمَ من الأزل، وسيبقى يقدِّم إلى الأبد، صورة الجلمود الحنون الّذي يُعطي بصمت.

قبريخا – جبل عامل  

***

*من كتاب لغة الأرض والحياة.

 

 

اترك رد