د.علي حجازي
بعد تناولنا الفطور الشهيَّ الذي جمع ما جادت به مخلوقات الله من أجبان وألبان وزيت وبيض وزيتون وغير ذلك . عدنا إلى الجنينة من جديد. توقّفنا قليلاً، فقلت لهم:
-الآن، نقوم بجولة قصيرة، ثمّ نغادر للاطلاع على أشكال جديدة.
-عن أيِّ أشكال تتحدّث ؟ سأل نادر.
-هيّا بنا نلقي نظرةً على الأثمار.
توقّفنا على أعتاب شجرة التين، كادت الأكواز الشهيّة أن تقفز من على أغضان أمّها لتعانق نفوسنا المشتاقة إلى تذوّق هذا النوع
“العسلاني ” الشهيّ، في حين كانت كيزان التين الحمراء ترقب وصولنا عن مسافة قريبة.
-انظروا إلى أشكال الكيزان الصغيرة والكبيرة على السواء !
-لمَ تطلب إلينا مثل هذا الطلب؟
-لأنّني أريدكم أن تستنتجوا ما نهدف إليه من هذه الزيارة الاستطلاعيّة.
تقدّمت وشرعت أقطف كيزان التين التي لم تصلها الدبابير والنحل والزراقط بعد؛ والتي كانت تأكل غير عابئة بدنوّ يدي من ملامسة الواحدة منها.
رآني نادر فصرخ:
-جدّي، انتبه. قد تعقصك الدبابير والنحلات والزراقط وغيرها.
-التفتّ إليه وقلت:
-حبيبي نادر، إنّ هذه المخلوقات تعرف ما نضمره لها من خير أو شرّ.
-كيف تعرف الحشرات ذلك؟
-عندما يخاف المرء من الزواحف والوحوش والحشرات يفرز جلده العرق ، ومادة الأندرلين التي تشمّها هذه المخلوقات فتتأهب لمواجهته؛ وفي حال عدم مبالاته برؤيتها تعرف هي، لأنّها لا تشمّ تلك المادة!
سبحان الله الذي زوّدها بهذه المعرفة.
من شجرات التين توجّهنا إلى شجرات البرتقال المتعددة الأسماء:
هذه “البوصرّة”، وتلك “الشموطي” وهناك “البوملي”، “ويوسف أفندي ” وهذه “بو صفير” وهناك الليمون الحامض.
تابعنا جولتنا التي طاولت شجرة الزيتون والعريشة ، وثمار الحب والأفوكا والعنّاب والخوخ والإجاص وغيرها… قلت:
-سيكون لنا وقفة طويلة عند الزيتونة والعريشة فيما بعد . الآن نغادر إلى معرض الفاكهة لمشاهدة أنواع أخرى غير موجودة هنا.
ابتهج أحفادي الذين كانوا يتلمّسون كلّ نوع من الأثمار، ويشمّون رائحته، ويتفحّصون شكله جيّداً، وأشرقت عيونهم فرحاً انتظاراً لمعرفة ما لم يروه في الجنينة في هذا الفصل.
أمام تلك اللوحة الإبداعيّة الخلّابة، توقّفنا جميعاً، وأخذنا نتفقّد الأنواع العديدة من الفاكهة والخضر.
طفق علي يُحدّق إلى الأنواع العديدة التي لا تُحصى، وهي تنتظم صفوفاً متساوية؛ الأصغر، فالأوسط، فالأكبر، وشرع يفكّر في حلّ السِّرِّ، سرّ الدهشة التي أصابته حين وقع بصره على محتويات المعرض الذي كانت رفوفه متوازيةً طولاً، متساويةً عرضاً، وعلى كلّ واحد نوع من الفاكهة على اختلاف ألوانه وأحجامه. فالبرتقال صفّ واحد، يبدأ، بالبرتقالات ذات الأحجام الصغيرة، وينتهي بالكبيرة.
أمسك نادر يدي بلطف، سائلاً:
-أترى ما أراه يا جدّي؟
-ما الذي تراه يا حبيبي؟
-هذه الأشكال المتشابهة، والمتنوعة.
-أهي المرّة الأولى التي ترى فيها خُضاراً وفواكه؟
-لا، فقد زرتُ المعرض مرّاتٍ بغية الوصول إلى معرفة سرّ هذه الأشكال فلم أوفّق، فما الذي تراه أنت، ولم أستطع رؤيته أنا؟
-الأشكال الكرويّة والمستطيلة، وغيرها من ذوات الألوان المتعددة.
-أشكال وألوان متعددة؟ ما الذي تقصده بالضبط؟
-انتظر قليلاً، سأوجّه سؤالاً إلى صاحب المعرض.قلت .
قصدنا الرجل الجالس وراء طاولة قربها ميزان ، وآلة حاسبة وأوراق… بعد السلام توجّهت إليه بطلب:
-عمي، أبحثُ عن نوع واحدٍ من الفواكه والخضراوات يكون شكله مستطيلاً، أو مربعاً، أو أو مثلثاً، فأنا راغب في رؤية زوايا الأثمار.
حدّق العمّ إليّ وإلى أحفادي الثلاثة الذين رغبوا في مرافقتي، في حين بقي الآخرون يلعبون كرة القدم في الساحة الكبيرة أمام البيت، ثمّ حكّ رأسه، وبدا كمن أصابه السؤال بصدمة وقال:
-أعدِ السؤالَ لو سمحت يا عزيزي !
-بعد إعادة السؤال نهض الرجل ،وشرعَ يتفقّد محتويات المعرض التي يراها كلّ يوم. يطلبها ويستلمها ويعرضها، ثم يبيعها، وبعد إلقائه نظرة عجلى، أجاب:
-لا يوجد يا حبيبي، غير أن سؤالك غريب ! وأنا الآن غير قادر على الإجابة عنه ، فما الذي تريد قوله بالضبط؟
قبل الإجابة انتحينا جانباً وشرعتُ أشرح لهم:
-التفاح أشكاله كرويّة على اختلاف ألوانه، أحمر، أصفر، أخضر، بنيّ عادي، بنيّ مشرب أشعة شمس أحالت لونه غامقاً ويعرف “بالجردى” …
العنب كذلك، والكمثرى (الإجاص ) والمشمش والخوخ وغير ذلك …
انظروا البطيخ المتعدّد الأشكال والألوان، هذا أخضر، وذاك أخضر مخطّط، وذاك أصفر.
هذا الملفوف والقرنبيط (الزهرة) ومع كلّ هذا التنوع لم نرَ أشكالاً ذات زوايا مثلثة أو مربعة.
هنا، تدخل العمّ الذي كان يتابعنا وقال:
-صحيح ما تقوله، فأنا أزور بساتين الفواكه كثيراً، ولم أنتبه إلى أشكالها، فما الحكمة مما تقول؟
-اولاً ؛ إنّ الهواء والعواصف لا تؤثّر كثيراً في الأثمار الدائريّة الشكل ، في حين يكون تأثيرها كبيراً في ذوات الزوايا (إذا وجدت).
ثانياً: تصوّر نفسك سائراً وسط البستان، تحت أشجار الليمون والتفاح وغيرها، ومن دون انتباه منك، أدرت وجهك يمنة أو يسرة، فما الذي يحدث؟ هل تدمي رأسك ؟
-بالطبع لا
-لو كانت البرتقالة ذات زوايا حادّة فما الذي يصيبك؟
-سأجرح رأسي.
الآن ، بدأت أعرف سرَّ السؤال. بل بدأتْ تتجلّى أمامي أمور كنت أجهل سرَّ استدارتها من قبل، تفضَّل بالإضافة ، فأنا الآن راغب في الاستزادة. قال العم.
-القمر كرويّ الشكل مستدير، والشمس كذلك، والأرض التي نمشي عليها، وتدور بنا كروية الشكل كذلك، سبحان الله !
-ما الذي تريد إيصاله إليَّ الآن؟ تفضّل.
-الآن عرفت سرَّ تصميم خلق هذا الكون العظيم، ومنه تعلّمنا أن حركة الأشكال الدائريّة سريعة. تصوّر قمراً مثلثاً أو مربعاً أو مستطيلاً، فبأيّ سرعة يدور ؟ وقل هذا عن الأرض والشمس .
-تدّخل نادر وقال:
جدّي، انظر إلى الكلل التي نلعب بها، فلو كانت مربعةً لأصبحت بطيئة السرعة، غير دقيقة الإصابة، وأشكال الطابات التي يلعب بها كلّ فريق، من كرة القدم إلى الكرة الطائرة، فالمضرب وغيرها .
-سبحان الله! قالت سارة ثم توجّهت إلى العمّ سـائلة:
-ما فائدة كون البطيخة كروية الشكل برأيك؟
-توجّه العمّ إليَّ وقال: تفضل يا حبيبي، منك نسـتفيد.
-الشكل الكروي يسمح للهواء بالعبور بين هذا العدد الكبير من ثمار البطيخ، فيمنع تعفّنها، ثم يمنحها قدرةً على تحمّـل الأوزان أكثر.
-رائع أنت يا حبيبي، الآن فتحت عيني على أشكال أخرى (قال العم)
-تفضل
-أثمار التين والزيتون والعنّاب والخوخ والكرز والأفوكا والأكي دنيا والمشمش كلّها كرويّة الشكل. والبذور مستديرة كذلك، والحبوب، من قمح وعدس، وأرز. وغيرها مختلفة أشكالها وزواياها غير حادّة… سبحان الله!
-غير أنَّنا نلاحظ أشكالاً مستطيلة، مثل الموز والقثاء والخيار والباذنجان والكوسى وغيرها. ألا تلاحظ خلوّ هذه الأشكال من الزوايا الحادّة، المربعة والمثلثة أيضاً ؟
-بلى، ما الفائدة من ذلك .
-الله دوّر زوايا هذه الأشكال، ومنحها نعومة الملمس، ألا ترى؟
وقف العمّ مدهوشاً وقال لي:
-ما الحكمة البالغة من سرّ الأشكال هذه يا ترى؟
-الله سبحانه وتعالى ألهم الإنسان اختراع الدولاب الذي نسمّيه العجلة بعد مراقبته الشمس والقمر والأرض ، والحبوب والأثمار المستديرة ، وهذا الاكتشاف المهمّ مكّن البشر من الانتقال السريع، فلولا العجلات لا سيارة تسير ولا طائرة تطير .
الله سبحانه يقول: “والشمس تجري لمستقرّ لها ذلك تقدير العزيز العليم “. “أجل فنحن نعلم أنّ الأرض تدور حول الشمس ، وتحتاج سنة لتدور دورة كاملة ، والشمس أيضا ً تدور حول مركز المجرّة بسرعة تقدّر 828000كيلومتر بالساعة، ومع هذه السرعة العالية فإنَّها تحتاج 230مليون سنة لتدور دورة واحدة حول مركز المجرّة حسب وكالة NASA ”
من هذا كلِّه نتعرّف إلى عظمة “الله الأحد، الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد ” فهو مبدع هذا الكون الكبير الذي وفّر غذاءنا، ويسَّر أمورنا حين درس ورسم وخطط، ونفّذ، وأغنى الخلق بأنواع وأشكال شتّى.
-رفعنا أكفّنا إلى الله وردّدنا:
سبحان الله العلي القدير، خالق هذا الكون العظيم ! سبحان الله!
ودّعنا العمّ صاحب المعرض ، وعدنا إلى الجنينة حيث رحّب بنا الأحفاد الذين كانوا يلعبون بالكرة ، وقالوا:
-رجعووووووا .
-بل عدنا بصيد ثمين.
-عن أيِّ صيدٍ تتحدَّث ونحن لا تبصر شيئاً ؟
تقدّم نادر واخذ الطابة من إخته مريم وركلها فدخلت المرمى بسرعة .
-لمَ فعلت ذلك ؟ قالت مريم.
-لو كانت هذه الطابة مربعةً أو مستطيلةً أو مثلَّثةً هل كانت تتدحرج بهذه السرعة؟
-طبعاً لا.
إذا ؛ تعالوا نخبركم عن الصيد الثمين الذي قدّمه لنا قبل قليل.
أسرع أحفادي يتلمّسون الفواكه التي شاهدوها قبل مغادرتنا ، والتي بدت لهم محبّبة أكثر بعد تعرّفهم سرّ أشكالها وألوانها. وأخذوا يشرحون لسيرين وليا ومريم ما جرى في معرض الفاكهة ، وكانت الشمس تغمرهم بأشعتها الفضيّة مباركةً .
-جدّي ، وعدتنا بشرح ما تعرفه عن العريشة والزيتونة .
-نعم أجيبكم في مرّة ثانية يا أحبتي. الآن سنأخذ قسطاً من الراحة نعود بعده إلى الجنينة التي تقدّم لنا سرّاً جديداً في كلّ زيارة لها.
سبحان الله !
قبريخا – جبل عامل