الأديبة كلود ناصيف حرب  قارئة رواية الأديب د. جميل الدويهي “حدث في أيّام الجوع”: مشهديّة متكاملة من فيلم مرعب

 

 

نُشرت أيضاً في كتاب “جميل الدويهي والنهضة الاغترابيّة الثانية – في الرواية”.

 

ما يحدث في واقع الحياة، يجسّده الأديب الدويهي على الورق، ليقدّم شهادة ناطقة، في إطار قصصيّ جاذب، كلّ ذلك لشعوره بأنّه في مقدّمة المناضلين لخلاص بلاده من القابضين على روحها، المعذّبين لإنسانها. وهو يقول في كتابه “هكذا حدّثتني الروح”: “الشاعر الذي لا يشعر بآلام الناس ليس شاعراً، والمبدع الذي لا يفهم أنّ الكلمة حقّ وعدالة  ليس  مبدعاً… والكاتب الذي يبيع ضميره من أجل حفنة من المال، ويتمسّح على أبواب القصور من أجل وسام أو رتبة فارس، لا هو فارس… ولا يستحقّ أيّ وسام…  والمفكّر الذي يتجاهل صرخة الشعب ويصغي لصوت النظام هو خارج على قوانين الفكر،  ولا ينتمي إلى محيطه” (الدويهي، جميل: هكذا حدّثتني الروح، مشروع أفكار اغترابيّة،87)

هكذا يفهم الدويهي رسالة الأديب المبشّر، صاحب المهمّة الثقيلة، المترفّع عن الصغائر، والشجاع الذي لا يهاب السلطة، بل يستجيب لنداء ضميره. فها هو يشنّ هجوماً لاذعاً على أهل الحكم، قائلاً:  “قاتلهم الله… يبيعون شرفهم للوصول إلى السلطة. يلهثون وراء الغرب ويستجدونه، حتّى إذا شعروا بأنّ لا فائدة منه، أداروا وجوههم إلى الشرق، في غمضة عين، لعلّهم يصيبون منه فائدة… حكّامنا المتسلّطون أرادوا أن يدخلوا التاريخ، وأن يُذكروا مع الأبطال الخالدين، فإذا بنا ندخل معهم في ظلام دامس. فيا لتلك الوعود التي أغدقوها علينا! وعود فضفاضة وفارغة، سرعان ما تناثرت هباء، وحصدنا منها المصائب… إنّ التاريخ سيذكر عنهم، أنّهم كانوا جائعين وشبعوا… وكانوا يستميتون من أجل السلطة، وكأنّ السلطة وليمة شهيّة، وهي مسؤوليّة ورسالة وخدمة… فسقطوا من عيون الناس، وها هم يشتمونهم في الشوارع، ويلعنون الساعة التي صدّقوا فيها كلامهم المعسول، ويصوّرونهم بأبشع الصور… لم نرَ في أيّامنا قادة مثلهم في أيّ بلاد… ولم نسمع بمثل هذا التردّي، حتّى في أوطان يحكمها المستبدّون”. (حدث في أيّام الجوع، 28-29)

يعكس هذا الكلام غضباً ومرارة، بل خيبة أمل من شخصيّات وعدت ولم تفِ، وتنقّلت في ولائها بين الشرق والغرب، بحسب المصالح والأهواء والمكاسب. وكأنّي أسمع في صوت الدويهي هنا صوت أمين الريحاني في “الريحانيّات”، وتعود إليّ محاضرات فيلسوف الفريكة في النقد والإصلاح الوطنيّ والقوميّ. والدويهي أمضى فترة طويلة من عمره خارج وطنه، والفترة التي عاشها في لبنان كانت مجبولة بالعرق والدموع والصبر، وقد خرج من بلاده لظروف سياسيّة صعبة، بيد أنّه لا يزال يكتب ويتنفّس حبّاً لوطنه، ويشارك في وليمة الألم، ويسير بين الثائرين صارخاً وداعياً إلى التغيير الفعليّ، وإنقاذ الإنسان من جحيم الذلّ. كيف لا؟ والبؤس يغطّي الأرض، بينما الأغنياء من أنصار الحاكم، أو أفراد أسرته، كانوا فقراء وصاروا أثرياء بين ليلة وضحاها، وكأنّ ساحراً ألقى بعصاه، فأنبتت لهم ذهباً وكنوزاً. (حدث في أيّام الجوع، 29)

وكأنّ الدويهي مفتون بتصوير الرعب، كما في “طائر الهامة”، فإنّه يرسم طائفة المتسلّطين، بصورة مخيفة، فهم المومياءات كما يسمّيهم: “المومياء هي التي وضعت لعنة، مومياء قديمة في عينيها شرور وقبائل تتحارب، وفي قلبها جشع وضغينة على كلّ ضياء. المومياءات تظهر في الليل. تقوم من الخرائب والقبور. تنفض عنها غبار الماضي السحيق، ترمي بأكفانها تحت جناح العتمة وتصيح بأفواه كبيرة. مومياءات تضرب في الدروب الموحشة، تتهامس حول البيوت، تدخل من الأبواب والشبابيك لتختطف الأطفال من أسرّتهم، وتغتصب الفتيات العذارى، وقبل أن يطلع الصباح، تعود إلى مهاجعها، في غابات الصمت، وتترك وراءها خيوطاً من الدم والدموع كآثار باقية” (حدث في أيّام الجوع، 30) .

مشهديّة متكاملة من فيلم مرعب، فكأنّ الشخصيّات المحنّطة هنا تظهر على شاشة الحبر، تتحرّك، تفعل، تغيّر، تلعن، وتضرب وتخطف الأطفال، قبل أن تعود إلى القبور، فترتاح من جهاد الليالي. لكن أين هم الناس لا يتصدّون لها، ويقفون في وجهها، ويخلعونها مرّة واحدة وإلى الأبد؟ ولماذا لا يثورون عليها وينجون من آثامها؟

الثورة هي ما يؤرّق الأديب. وقد دعا إليها علناً في كتاباته الأدبيّة والصحفيّة، فاسمعه يقول: “ارتفعت أسعار الطعام إلى حدّ لا يطاق، ولم يعد الناس يستطيعون شراء سلعة رخيصة الثمن، أو علبة دواء… فانتحر بعض الفقراء هرباً من سوء الحال، ومات الكثيرون على أبواب المستشفيات، وانتشر وباء غريب، قضى على كثير  من البشر… والحاكم لا يحرّك شفة، ولا يعرف ماذا يدور في بلده، فكأنّه أصمّ وأعمى… إنّ الأمر يحتاج إلى ثورة حقيقيّة، ومَن يستطيع أن يرفع الصوت، وصوته مخنوق، ولا يعثر على زاد ولو في القمامة؟ وكيف يتجرّأ الشعب على المطالبة بحقوقه، ونصفه يؤيّد الجبابرة، ويموت من أجلهم، ولو في زمان الجوع؟” (حدث في أيّام الجوع، 43)

كم في هذا المقطع من الحقائق الملموسة: الغلاء، الانتحار، الموت على أبواب المستشفيات، الوباء الغريب، صمت الحاكم، تلكّؤ الناس عن المطالبة بحقوقهم بسبب التبعيّة والانضواء!… فكأنّ الأديب مؤرّخ روائيّ، يدرج الوقائع الصادمة الواحدة تلو الأخرى، في نصّ قصصيّ مفعم بالحياة. فالأديب لا يترك شاردة وواردة، إلاّ ويحشدها في القصّة، فاسمعه يقول عن الهرب في قوارب متداعية للحصول على حياة كريمة في بلاد الغرب: “ألا تسمع بأنّ الفقراء يركبون في قوارب متداعية ويحاولون الفرار من هذا الواقع الأليم؟ ألا تعلم بأنّ كثيرين منهم غرقوا، وهم يغامرون في البحر، ويطلبون الرأفة من المجهول؟” (حدث في أيّام الجوع، 41)

لكنّ أديبنا يشعر بالإحباط والفشل، عندما يرى أنّ المساكين فضّلوا طوائفهم وأحزابهم ومومياءاتهم على ثورة لو نجحت لكانت هي الخلاص وتجدّد الأمل. ويعبّر عن مرارة من الناس التابعين فيقول: “بعض الأوطان سكّانها كالبيادق، تحرّكهم الأيدي والأهواء كيفما تشاء، واللاعبون يدركون أسرار اللعبة، ويتقنون أصولها… ويعرفون أيضاً أنّ ثورة الجياع لا يمكن أن تطول، فالأفواه مقطّبة، والعيون مغمضة، والأصوات محبوسة في الصدور، لا تكاد تعلو حتّى تنخفض وتتلاشى، يتحكّم بها أرباب السلطة والمال، تحت شعارات كثيرة، منها الدِّين، والعقائد المتفرّقة، والتخويف من تحويل الثورة إلى حرب ضروس… وهكذا يجد الناس أنفسهم مجبرين على السكوت، ولو كانوا على أبواب القبور، ولا تفصلهم عن العتمة الأبديّة إلاّ مسافة قصيرة”. (حدث في أيّام الجوع، 30-31)

الكلّ يعرف ما هي أسباب فشل الثورة في لبنان. يقول هلال رميتي: “نرى أن الطائفية المتجذرة في النفوس والنصوص في لبنان تُشكِّل أهم عائق لنجاح أيّ ثورة. فاليوم مثلاً لو قرّر أحد ما إعلان الثورة في لبنان يُنظر مباشرة إلى مذهبه ودينه قبل أفكاره وتوصف ثورته على هذا الأساس وبالتالي تُولد ميتة. هذه الطائفيّة أبدع ساسة لبنان في إستغلالها لإحباط أيّ حراك ثوريّ، ما ساهم عبر الوقت في خلق طبقة سياسيّة معارضة للطبقة الحاكمة لكنّها غير مزعجة. فالمعارضة في لبنان هي الأخرى طائفيّة، وتظنّ بطائفيّتها أنّها ستغلب الحاكم لكنّها تخدمه من حيث لا تدري. لذلك، أدّت الطائفيّة مهامّها على أكمل وجه ورسمت خطوط اللعبة بين الطوائف، وابتكرت مجالس لتنظيم الخلافات بينهم، وتركت هامشاً ضيّقاً للمعارضة لتنزل إلى الشارع كنزهة في عطلة نهاية الأسبوع. فأيّ ثورة بحاجة إلى نخبة معارضة تقودها وقائد يحرّكها وفكرة تُلهمها. والنخبة المعارضة في لبنان هي أسوأ من الحاكمة، والقائد مفقود، والفكرة مبتذلة ومستوردة، ولا تُحاكي ثورة حقيقيّة لبنانيّة” (رميتي، هلال: لماذا لا تنجح الثورة في لبنان؟، موقع الجزيرة، 29-9-2019)

إنّها الخيبة نفسها التي يشعر بها الدويهي عندما يعلن صراحة: “احتمى أهل الظلام بطوائفهم، فوراء كلّ محنّط محنّطون مثله… أجساد ورؤوس تتبعه، وتقسم يمين الولاء والطاعة له، ولو رآه أتباعه بعيونهم المجرّدة يسرق ويغتني ويكدّس الملايين في المصارف، فهو القدّيس المجيد الذي لا غبار عليه، وحَلال على قلبه أن يكون مخادعاً. والغريب العجيب أنّ مَن يدافعون عن أمراء المال، هم طوابير من المعدَمين الذين تفكّكت عظامهم، واصفرّت وجوههم، وغزا المرض والفاقة بيوتهم… ففي اعتقادهم أنّ الطائفة، والحزب، والعائلة، والقائد الملهم أغلى من الروح، وأعظم من الوجود كلّه”.  (حدث في أيّام الجوع، 49)

ويضيف الدويهي عاملاً آخر، ربّما لم ينتبه إليه أغلب من كتبوا عن الثورة اللبنانيّة، هو مكر الطبقة السياسيّة، ودهاؤها في تصوير أنّها هي مع الثورة، لكنّها تضربها من الداخل. يقول:  “بلاد ابتلاها الله بحفنة مـن أهـل الظلام الذين حوّلوها إلى مزرعة لهم ولأتباعهم، وتقاسموا النفوذ، وتوزّعوا المكاسب، وتخشّبوا على الكراسيّ، هياكل عظميّة جامدة وبليدة أكل الدهر عليها، ولا تزال تعتقد أنّها صالحة لكلّ زمان، حتّى زمان التغيير. وإذا ارتفعت أصوات الشعب لتنادي بالثورة والعدالة، قام نفر من هؤلاء المتسلّطين، وخلعوا عن أجسادهم الملابس الأنيقة وربطات العنق، ونزلوا إلى الشوارع ليعلنوا أنّ مطالب الفقراء هي مطالبهم، وأنّ الثورة هي جزء من تطلّعاتهم… وهكذا يكون الثعالب محامين عن الدجاج، وحارسين لمملكة الطيور” (حدث في أيّام الجوع،48-49) .

إذن عبدالله ليس السارق الوحيد، ففي الرواية العديد من مشاهد السرقة التي يكرّرها الكاتب، وكأنّه يريد أن يصوّب على هذه الناحية. وهو يقسم الناس إلى سارقين صغار وسارقين كبار.  فالصغار يرتكبون جرائم صغيرة، والكبار يرتكبون جرائم كبيرة، ويتحالفون، ويتقاسمون، حتّى وصل بهم الأمر إلى عقد صفقات مع المهرّبين، إذ من القصّة يبدو أنّ رئيس العصابة، كان منذ وقت طويل متحالفاً مع المنظومة الحاكمة، والزعيم السياسيّ كان يأخذ من الغلّة، ضريبة للتحالف، وتأكيداً للعهد الوثيق بين الحاكم والسارق، فأصبحا معاً في دائرة واحدة، وكلّ منهما يرتدي ثياب الآخر. وشاعت فكرة التحالفات من هذا النوع، في وطن منهوب، مسلوب الإرادة، لم يبق فيه حجر على حجر، وما زال كباره يتبخترون بأغلى الثياب، وقد بلغ بعضهم من العمر عتيّاً، فماتت أجيال وولدت أجيال، وهي تشهد على التصاقهم بالكراسيّ، ولا يخجلون أو يرفّ لهم جفن. ولو احترقت البلاد، وسقط الآلاف من الشهداء، يذرفون دموع التماسيح، فتظنّ أنّهم من أهل الشهيد، وهم يمثّلون”. (حدث في أيّام الجوع، 88-89)

إنّ رواية “حدث في أيّام الجوع، هي رواية الفقراء… فقد كان المنبوذون، البائسون، الباحثون عن كسرة خبز، الوالد، الوالدة، عبدالله، سلمى ومنصور… كلّهم ضحايا على مذابح هذا الزمن الرديء الذي لا يشبهه أيّ زمن آخر.

***

*تنشر وقائع الجلسة قريباً في كتاب من مشروع أفكار اغترابيّة. وعلى موقع www.jamildoaihi com.au

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – 2022 النهضة الاغترابية الثانية- تعدد الأنواع

اترك رد