د. علي حجازي
قصّة قصيرة مهداة إلى الهاربين من جحيم دنياهم إلى محطّة القطار.
قبيل الغروب بقليل، وبينَ كنت قافلاً إلى بيتي مرهقاً من الدوار في هذه الحلقات المقفلة والمفرغة في آن، أبصرته يذرع الطريق أمام الصيدلية، ذهاباً وإياباً، لا يكلّ ولا يملّ. كأنّه على موعد. بل كأنّه على نار تلهب قدميه.
انتحيت جانباً، وللحقيقة والواقع، كان الفضول يدفعني إلى الوقوف على حاله، ومسببات قلقه الكبير البادي بوضوح على قسمات وجهه وحدقتيه الحمراوين عند هذا الغروب.
بعد عودته من آخر الشارع تنبّه لوجودي، فطفق يُحدّق إليّ . بدا، وكأنّه هو الراغب في معرفة سبب تجلّدي أمام الصيدلية من دون الوقوف في الطابور الذي يخرج منه أكثر المنتظرين الطاعنين في السن مثله، قل مثلي أنا كذلك، وهم يشتمون ويلعنون.
-ما سبب انتظارك هنا أجبني؟ (قال ذلك بنبرة حادّة تقريباً).
-تعبت من المسير خلال هذا اليوم الطويل.
-كم الساعة الآن؟ وهل حظيت بالدواء؟ أسمعتَ الأخبار؟ أقبضت المساعدة الاجتماعية؟ قل الراتب الشهري ودّع من اليوم الثاني، فالدائنون لا ينتظرون.
-وأنت ألا تنتظر إجابات عن أسئلتك العديدة؟
-بي رغبة كبيرة في معرفة الساعة قبيل الغروب.
-الساعة والغروب. ما سرّ اهتمامك بمعرفة الوقت؟
-القطار سيمرّ بعد قليل، وأخاف ان يفوتني على قارعة الطريق. ثمّ انظر الازدحام الشديد، فهؤلاء يترقّبون مجيئه بالفرح نفسه الذي يدفعني إلى انتظاره، على ما أعتقد. بربِّك قل لي كم الساعة؟ وهل الغروب بعيد؟
صمتُّ ورحتُ أحللُ رغبته الشديدة في معرفة وقت الغروب ودنو ساعته.
لما أيقن عجزي عن معرفة الساعة والغروب، لأنّني بتُّ لا أحمل ساعة منذ تلك الساعة التي أُحلْتُ فيها على التقاعد.
قبل أن يغادرني خالي الوفاض أبصر دمعتين على خدّيّ. تبدّلت قسماته، قل ازدادت تقطيباً وسأل:
يا إلهي. أتبكي الآن أنت؟
-لا، فهذا الذي تراه مصدره جرح عميق.
-الجرح ينزف دماً عادةً. غريبٌ امرك! فأنا لا أرى الجرح.
-جرح الكرامة لا يرى يا عزيزي، فهو عميق جدّاً ومتّصلٌ بالروح والوجدان والعزّة ياصاحبي!
مالَ بوجهه عني، وأسرع إلى رجل طاعن في السنّ يسأله عنهما؛ الساعة والغروب.
نظر الرجل إليه طويلاً وقال:
-أتنتظر القطار القادم سريعاً مثلي؟
تهلّل وجهه بفرح مغتصب وسأل:
-من الذي أعلمك بما يهجس في أعماقي؟ وبما أترقّب؟
-ألست متقاعداً وبتّ عاجزاً عن تأمين الدواء والغذاء والفوز بقليل من فسحة الضوء؟
-بلى بلى أنا كذلك.
ربّت على كتفه ثمّ خاصره وقال:
-إمشِ معي، فكثيرون من زملائنا ورفاقنا المتقاعدين سبقونا إلى محطة القطار القادم ليقلنّا من هذا الجحيم إلى نعيم ربّ العالمين.
لحظة من فضلكما.
سرقا التفاتةً حانية سريعة إليَّ وراحا ينتظران طلبي فعاجلتهما:
-ألا ترغبان في انضمامي إليكما؟ فأنا بتّ أعشق الغروب ودنوّ ساعته منذ زمن! قلت ذلك وعدوت، خاصرتهما ومضينا مسرعين صوب محطة القطار الذي يصدح عند رحيل آخر شعاع للشمس، واختفاء آخر خيط من خيوطها الهاربة لتضيئ على آخرين لا يزالون يحلمون بنور الصباح وبساعاته الأولى في غير مكان من هذا العالم.
عند المحطّة أوقفنا رافع الصامولة سائلاً:
-أين الاكفان؟
ضحكنا معاً، وقلنا بصوت واحدٍ:
-رحم الله لصوص الأموات السابقين الذين كانوا يكتفون بتشليح الميّت المسكين كفنه. أمّا لصوص الأحياء المعاصرين فيعقبون فوزهم بالكفن بخازوق يدقّونه في قفا المسلوب كرامته وأمواله وحبة دوائه وحليب أطفاله وأمنه (أجلّك الله وأبعد عن قفاك الخازوق) ويتركونه على قارعة المحطة منتظراً قطار الغروب راضياً مرضيّا
قبريخا في 21 أيلول /2022…