١- نصّ من الرواية: الواقع المرّ
كان يشكر الله لأنّه وفّر له سبيلاً للحصول على المال، وإعانة أسرته الصغيرة. فلولا عمله لماتت المرأتان جوعاً. فقد ارتفعت أسعار الطعام إلى حدّ لا يطاق، ولم يعد الناس يستطيعون شراء سلعة رخيصة الثمن، أو علبة دواء… فانتحر بعض الفقراء هرباً من سوء الحال، ومات الكثيرون على أبواب المستشفيات، وانتشر وباء غريب، قضى على كثير من البشر… والحاكم لا يحرّك شفة، ولا يعرف ماذا يدور في بلده، فكأنّه أصمّ وأعمى… إنّ الأمر يحتاج إلى ثورة حقيقيّة، ومَن يستطيع أن يرفع الصوت، وصوته مخنوق، ولا يعثر على زاد ولو في القمامة؟ وكيف يتجرّأ الشعب على المطالبة بحقوقه، ونصفه يؤيّد الجبابرة، ويموت من أجلهم، ولو في زمان الجوع؟
لقد أصبح النهب مشروعاً، يتساوى فيه الغنيّ والفقير… والبطانة والحاشية والذين يدورون في فلك الحاكم، صاروا جميعاً في غمضة عين من أصحاب الملايين، بينما الشارع يغلي من شدّة الفاقة، وأبناء الطبقة الفقيرة يهيمون في البراري بحثاً عن النباتات والأعشاب التي لا تُشبع بطونهم، بعد أن تهدّمت عنابر الحبوب، وقلّت المؤونة، وعلا الصراخ في كلّ مكان، وليس من آذان تسمع أو تستجيب.
بلاد ابتلاها الله بحفنة من أهـل الظلام الذين حوّلوها إلى مزرعة لهم ولأتباعهم، وتقاسموا النفوذ، وتوزّعوا المكاسب، وتخشّبوا على الكراسيّ، هياكل عظميّة جامدة وبليدة أكل الدهر عليها، ولا تزال تعتقد أنّها صالحة لكلّ زمان، حتّى زمان التغيير. وإذا ارتفعت أصوات الشعب لتنادي بالثورة والعدالة، قام نفر من هؤلاء المتسلّطين، وخلعوا عن أجسادهم الملابس الأنيقة وربطات العنق، ونزلوا إلى الشوارع ليعلنوا أنّ مطالب الفقراء هي مطالبهم، وأنّ الثورة هي جزء من تطلّعاتهم… وهكذا يكون الثعالب محامين عن الدجاج، وحارسين لمملكة الطيور.
واحتمى أهل الظلام بطوائفهم، فوراء كلّ محنّط محنّطون مثله… أجساد ورؤوس تتبعه، وتقسم يمين الولاء والطاعة له، ولو رآه أتباعه بعيونهم المجرّدة يسرق ويغتني ويكدّس الملايين في المصارف، فهو القدّيس المجيد الذي لا غبار عليه، وحَلال على قلبه أن يكون مخادعاً. والغريب العجيب أنّ مَن يدافعون عن أمراء المال، هم طوابير من المعدَمين الذين تفكّكت عظامهم، واصفرّت وجوههم، وغزا المرض والفاقة بيوتهم… ففي اعتقادهم أنّ الطائفة، والحزب، والعائلة، والقائد الملهم أغلى من الروح، وأعظم من الوجود كلّه.
٢- قراءة د. عماد يونس فغالي
جوعٌ إلى خبزٍ من إنسان!
عندما تقرأ نصّ “الواقع المرّ”، تحلّ المرارةُ في ذهنكَ على امتداد السطور، خصوصًا إذا كنتَ لبنانيًّا تعيش في لبنان الأيّامَ هذه. فتمرّ الكلماتُ على واقعكَ المرّ كأنْ تصفه، وإنْ في مكاناتٍ أنتَ بعضُ ناجٍ!
يكتبُ الدكتور جميل منذ سيدني واقعًا مرًّا يحياه من بُعد. لكنّه هو اللبنانيّ العتيّ، العانى الواقعَ المرَّ منذ رحّله إلى مغترَبه، لا يزال طعمُ العلقمِ يمرمر حلقَه ويمرُّ في جهازه الأخلاقيّ يشنّجه بارتفاع ضغطِ اللا إنسانيّة فيه!
يقول الكاتب: “بلاد ابتلاها الله بحفنة من أهـل الظلام”… قد لا يكون اللهُ فاعلَ البلاء، لكنّه طبعًا سمحَ لظلامةِ هؤلاء ابتلاءَ البلاد.
عرفتُ ببعضِ تواصلاتي كم هؤلاء يعتمدون على فئةٍ من الناس الجاهلين، المنقادين إلى الهتافِ الرخيصِ لمن يزوّدهم بحفنةٍ من فُتات… هؤلاء الذين لا يُقرَبون بحجّةٍ أو منطق، لأنّهم اكتفوا ببعضِ تفاهاتٍ اعتبروها قناعاتهم وانغلقوا… حفنةُ أهلِ الظلام يعرفون أنّ هؤلاء أرضٌ خصبة لإقامةِ ولاياتهم الفاسدة. هؤلاء أسمَوهم أهلَ الولاء والمواطنيّة الصالحة، لأنّهم لا يفقهون ولا يجادلون. يكفيهم أن كلوا واسكتوا… وفي وقتٍ اهتفوا لبّيك!
يتكلّم الدويهيّ على فئةِ الناس هذه، المستزلمين، كم في فاقةٍ وظلمٍ يرزحون. لكنّهم في عجزهم عن رفع رؤوسهم وإدلاءٍ بتذمّر بسيط، لا عن قيامٍ بحركة ثوريّة، كم تبدو بعيدةَ المنال، في عجزهم يستظلّون حججًا أسمَوها مبادئ لا يزيحون عنها… وهم يقنعون أنفسهم بكرهٍ غالبًا أنّهم في الصواب.
وإذا حصل تمرّدٌ في مكان، أخذ الحاكم أو المستفيدون منه دور الشاكي والتحقَ بالمتمرّدين، ليظنّ تُبّاعُه كم هو في صفّهم، شاعرٌ بهمّهم، فيضاعفون له انحناءاتهم ويصغرون!!
نصّ الدويهيّ إن يبدُ واقعيًّا توافرت فيه المؤشّراتُ السرديّة، ينطوِ على النمط الإيعازيّ في امتياز! فالكاتبُ إن يخبرْ، يبَنْ رفضُه الواقعَ جليًّا، تحسبْه يتقيّأ كلماتِه الواصفة الحال، علّ نافذًا يسمع! وهو كأنْ يهمسُ مدوّيًا أن اتّقوا يا ناسُ شرّ فساد الحاكمين، هؤلاء الذين ابتليتم بهم وأنتم غافلون! هي دعوةٌ مخفيّة، مبطّنة إلى تغييرٍ في نمطيّة السلوك الفرديّ والجماعيّ، إلى وعيٍ لحقيقةِ الحالة التي تعيشها البلاد من فسق الولاة وتبعيّة الموالين!
تركيزُ الكاتب على مسألة الجوع… معبّرة. أوّلاً بقي في السياق العام للكتاب: “حدث في أيّام الجوع”، ثانيًا الجوع في حقله المعجميّ الموضوعاتيّ، حالةٌ مجتمعيّة ملكة في الأزمات الإنسانيّة، تتطلّبُ معالجةً على المستوى العالي، لما تمسّ العمق الحياتيّ بشكلٍ عامّ!
د. جميل، شكرًا لبوحكَ الثمين وإن يوجع. شكرًا لأصالتكَ اللبنانيّة التي تبني أدبًا مهجريًّا سليمًا، قائمًا على الإنسانيّة النازفة دومًا.. شكرًا لأنّكَ توصّف المرضَ تشخيصًا واقعيًّا صريحًا… علّ قارئًا يكون في قامةِ المصلحين!
***
*تنشر وقائع الجلسة قريباً في كتاب من مشروع أفكار اغترابيّة. وعلى موقع www.jamildoaihi com.au
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي- سيدني ٢٠٢٢ النهضة الاغترابيّة الثاتية – تعدّد الأنواع.