بقلم: الباحثة ضحى عبدالرؤوف المل
يحاول ” عدنان يحيى” إخراج فن النحت من طوره التقليدي إلى طور معاصر، متجها بذلك نحو الحداثة بفكر تشكيلي يجسد رؤى لنصب، هي جزء من مفهومه الكلي عن احترام الإنسان لإنسانيته التي تؤرخ لتاريخ الحياة أو الموت.
فشواهد القبور في أعماله النحتية هي سجلات نحتية ترسم من الماضي ما يحاكي من به ” عدنان يحيى” قصة الحياة والموت التي يكتبها وفق تشكيل مستقبلي نحتي، وتكويني من مادة لا عضوية يمنحها رؤيته الخاصة، لتجسد فكرة تدور حول القضية الإنسانية بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص، فهو يعكس التطورات السياسية التي تطرأ على الفلسطينيين، وما يصيبهم من انتهاكات وتشرد وقتل، وتهجير من أراضيهم إلى شواهد على العصر بحيث نحت كل كتلة منها بأبعاد ثلاثية متعددة الرؤى والمفاهيم.
حتى ما كتبه على بعض منها يمثل حركة الموضوع الإنساني في مفهومه النحتي الذي يعالج به العمق المتأزم في قضية فلسطين التي عايشها شخصيا، فما من تهشيم في منحوتة لا فراغ فيها، إلا ويترك الندوب أو الثقوب، وهذا ما يوحي بما تعرضت له، حتى الشواهد الخاصة بأموات لهم تاريخهم النضالي، من رصاص أو تفجير أو انتهاكات حتى للقبور أو لتراث فلسطيني أو لأرواح شهداء ما زال وميض أرواحهم يزف دماء الأحياء ليولد السلام.
ألوان ضوئية تناغمت بدرجاتها وموجاتها المركبة ضمن المادة اللاعضوية النحتية التي تؤدي دور المعنى، فالأخضر الضوئي المنسجم مع الأزرق هو هوية تتخذ بعداً روحياً له مكنونه، لما يرمز له “عدنان يحيى” من سكينة أرواح ضجت في حياة لم تمنحها السلام، إنما هي سجلات تاريخية من جنين إلى قانا حتى غزة، وكأن عين قوى الشر في العالم تتبع الإنسان من مكان إلى مكان، ولكن دائما هناك ما “يستحق الحياة على الارض”، وهذا ما نحته في عمل يرمز إلى الثبات، من خلال رمزية القدم المهشمة، لينشىء ” عدنان يحيى” أعمالا فنية تسجيلية لمراحل زمنية ومكانية، ولأحداث مؤلمة لم تميز بين الأحياء والأموات في قوتها، ولا بين بيوت أو قبور. إلا أنها سلبت من الإنسان حيويته وتركته مع اللون والأزرق وسط لغة لونية تناغمت مع أزرق وأخضر. لنجد أنه في تاريخ ممزوج بالخير والشر. ليضعنا أمام مستطيلاته بأبعادها الثلاثية أمام منطق فلسفي، يعالج من خلاله رؤاه التاريخية التي يؤرشفها بمنحوتات سجل عليها أسماء المدن التي شهدت مجازر ومذابح من قبل يد الشر العظمى في العالم.
تشفيرات ذات غايات نحتية مجهولة بمستطيلاتها، ومصقوله بقياساتها وفوارقها بين الطول والعرض وتناسقها مع الأشكال الأخرى، ومعلومة بأسماء أمكنه وكلمات صاغها، كتقاطعات ذهنية ترابطت من خلالها الأشكال والفراغات الداخلية ضمن الغائر والنافر، وضمن الدائرة والمستطيل، ليحاكي المكونات ضمن اختزالات مشفرة تتضمن الأبعاد والفضاءات التخيلية المكثفة نحتياً، فهي ذات هندسة معمارية لها بناءات وظفها وفق الطول وانسجامه مع الدائرة التي وضعها كنصب تذكاري يرسخ جمالية الواقع، ويدحض كل تدمير تعرضت له الإنسانية ، وتسببت لها بتشويهات مكتفيا بدلالات رمزية لها اصولها النحتية المبنية على مادة حساسة، وشفافة بعيدة عن التعقيدات، فهي تأويلية الحركة وذات بينية تسمح بامتدادات زمنية تداعب الذاكرة، وتعيدنا إلى غزة وقانا وجنين، وما إلى ذلك من إيحاءات عميقة تركها في كلمات ذات جذور عربية ، وأصول مخبأة في دهاليز المعنى، والكيانات النحتية البنائية ذات النعومة والدقة التصويرية الغرقة بأسلوب نحتي له رؤيته الانسانية الخاصة.
مادة تقاوم الزمن فلا تمتد اليد العبثية عليها، ومع ذلك ترك ” عدنان يحيى” فيها الثقوب، مشيراً إلى أداة القتل الموجهة إلى كل عنصر جمالي ينبض بالحياة،. لكنه لم يتحرر من صلابة المادة أيضاً، ولم تظهر الفراغات إلا مع الثقوب السوداء والندوب، والرأس الملفوف بغموض تصويري، درامي مبني على مشهد إنساني ينادي بالإنسانية، وبحقوق الأحياء والأموات. بل والشهداء الأحياء وفق كل رمز نحتي وضعه ضمن مستطيل لا يمكن الخروج منها . إلا بدائرة تعيد الحقوق لأصحابها أو لمن مات وعاش، ولمن سيحيا في مستقبل مجهول الهوية. وهذا ما يجعل من كل منحوتة تفردت بموضوعها وفكرتها أن تكون كسجلات لا يطويها الزمن. لأنها من مادة لا عضوية منفية من الحياة رغم وجودها فيها ، وهذا ما اراد الفنان ” عدنان يحيى” إيصاله للتاريخ. ليبقى في ذاكرة النحت رؤية تصرخ من أوجاع شعوب لم تبقَ مغلقة على ذاتها. بل خرجت من قبورها المظلمة نحو النور او اللون الضوئي الأخضر والأزرق، والمؤثرات المتزنة بصرياً منتقلا من قوة وصلابة في المستطيل إلى الخطوط اللامتناهية في الدائرة الموضوعة على رأس كل مستطيل تميز بمعناه الخاص.
استطاع الفنان ” عدنان يحيى” ابراز الرؤية النحتية بشكل متقن من حيث العمق الظاهر والباطن، المتعلق بالمحاكاة الحسية والبصرية متحدياً صعوبات المادة الحساسة في النحت، المصحوبة باسقاطات تاريخية. هي نتيجة حدث وطني وإنساني بامتياز، مأخوذ من مشهد حسي حقيقي نحته وفقاً لأحاسيسه المؤلمة ، وناتجة عن صراعات الخير والشر، أو الموت والحياة، إلا أنه “هناك دائماً ما يستحق الحياة على الأرض”.
كلام الصور
american-soldier-in-iraq-oil-on-wood-2007- 1
2- عدنان يحيى
3 buch-iraq-oil-on-wood-2007
4- end-of-war-oil-on-wood-2006.jpg
(أعمال النحت للفنان الفلسطيني عدنان يحيى من مجموعة متحف فرحات)