منيرة مصباح
ان الحقيقة الفنية التي نراهافي كثيرمن الاعمال الفنية للعديد من الفنانين تبدو مغايرة لعدة حقائق متصلةبالعديد من القضاياالإنسانية والفكرية ولارتباطها بالتطور الفني وأحيانا بالطرح السياسي. لكن الفن يتعداها أحيانا لنقائضها ليبقى محافظا على هوية الفنان وقيمهواسلوبه الفني. ان التميز الذي ينسجه الفنان في جملة اعماله على أسس خاصة مدروسة تقنيا وفكريا وحديثة تعطي العمل الفني نوعا من التفرد والتميز.فالريشة واليد تتواطأ مع الفكرة الفنية للفنان لتظهر الالفة بينهما في نسق انفرادي من الانطباعية او التجريدية في معالجة الموضوع من مصدر ايحائي، لكن مع التأمل في الاعمال نرى ان الأسلوب واحد والفكرة واحدة أحيانا، لكنها تنفصل في رؤاها التفصيلية والدقيقة لتعطي للفنان تميزه الخاص مع التركيز على ابراز البيئة بشكل فني متطور.
وإذا اعتبرنا ان الفن التشكيلي كضرورة كشف هو حالة من الإحساس العميق، يحتاج الى دراسة قبل وصوله الى السطح، فان الفنان أمام مادته التي قد تكون قطعة قماش أو ورق أو صلصالأو غيرها، نراهيمتلك وعي وثقافة، تظهر في عمله حين يفتح نفسه على عالم من الاحتمالات أثناء تنفيذه للعمل الفني. وفيما يقوله بعض الباحثين على ان الثقافة الفلسطينية ومنها الفن التشكيلي. قد تضافرت فيها جدلية التراث والمعاصرة، التاريخ والحاضر، الأنا والأرض بمعنى الانا الجديرة بهذه الأرض. مما أخصب الاشكال الفنية برموز ودلالات مستنبطة من تاريخ عريق تعاقب على أرض فلسطين. ان هذا التاريخ قد تضافرت فيه الصورة والفكرة لتنهض بالواقع في مواجهة أشرس حملة إبادة للواقع الفلسطيني وللثقافة فيه.
والفنان عبد الهادي شلا واحد من الفنانين الفلسطينيين الذين تركوا بصمتهم في تأكيد الأمل والحلم الفلسطينيين، بعد أن عايش مأساة فلسطين بكل ما فيها من حرقة مأساوية تحولت الى أعمال فنية.
ترتكز تجربة الفنان عبد الهادي شلا الفنية على التناغم الهرموني مابين اللون والفكرة المدعومين بخلفية صادرة عن الروح الإنسانيةوعن الدراسة التقنية واللونية الاكاديمية. فهو خريجكلية الفنون الجميلة من احدى جامعات القاهرة العريقة جامعة حلوان، ويقيم حاليا في ولاية أنتاريو في كندا.
ولقد تبلورت البنية الفنية لدى “عبد الهادي شلّا”من خلال عدة مراحل فنية وعمرية، حيث بدأها بالمدرسة التأثيرية وهو على مقاعد الدراسةالجامعية ثم تبعها بالمدرسة التعبيرية في بداياته بعد التخرج حيث بدأ البحث عن شخصية فنية متميزة تحمل تكنيكا معقدا ومتنوع من الخامات حيث اكتسب من خلالها خبرة لتكوين شخصيته الفنية، كما غامر كثيرا في التجريب ليصل الى ما هو عليه من تمكن فني. ثم انتقل الى المرحلة البيضاء، الأولى ما بين عامي 78–80، والثانية بين 80-85، والمرحلة التجريدية.وبين هذه المراحل قام بعمل العديد من المشاريع، منها الحركة والجمال، نساء بلا وجوه، والمرحلة الخطية.
في كل هذه المراحل الاحترافية للفن التشكيلي عند “شلّا”تجلت فلسطينبوعيه وإبداعه، بحاضرها وماضيها، ثورتها وانتفاضاتها، سلامها وكبوتها، من خلال رموزه وألوانه.
ففي المرحلة البيضاء كان للفنان رؤيته الخاصة والمختلفة في استعماله اللون لأبيض الذي جعله مختلفا في طبيعة معناه، من حيث التناغم مع المعنى العام الذي أراد التعبير عنه في اللوحة الفنية. وجاء رمز الحصان الخشبي في المرحلة البيضاء الأولى مختلفا عنه في المرحلة البيضاء الثانية، في الأولى كان يعبر من خلاله عن الانسان مسلوب الإرادة عن حالة اغترابه فكانت لوحاته صادقة في معانيها، تنسحب على الواقع وعلى الجو المأساوي الذي يحيطه. أما في المرحلة البيضاء الثانية التيطغى عليها اللون الأبيض،ظهرالحصان الرمز في اللوحةثائرا، متحررا من قيوده ومن كبوته، كما حصل للفلسطيني في زمن الانتفاضة.
أن النتاج الفني “لشلا”في أغلبه جاء لوحات فنية تتعلق بالأوضاع الفلسطينية منها لوحة بيروت، أول الطيور البيضاء، وفي وداع الطائر الأسود وغيرها….
لكن رغم المأساة التي يعايشها “عبد الهادي شلا”الّا أن هدفه الفني كان وما زال أن يملأ النقص الجمالي الذي يحيط بنا، لذلك جاءت مشاريعهالأخرى مثل الحروفية، والحركة والجمال، انفتاحا على عالم من الاحتمالات، حيث اختزل الأشكال حتى حدود الصمت، او الكلام دون ثرثرة، وابتعد بألوانه عن الظلال فجاءت لوحاته نقية الحضور صافية، ومن حيث جوهرها وشكلها عربية، فهو يمتلك ابجديته الفنية الخاصة به، والطابع الدقيق في طبيعته التي تميل الى الرصانة والاتزان والتنفيذ المحكم للعمل الفني.
أما في مشروعه “الحركة والجمال” فهو يمسك الحياة في لحظة تدفقها وحركتها الأزلية، بشكل يضمن للعمل الفني عزل نفسه في المادة الجمالية.
ان في أعمال الفنان عبد “الهادي شلا” ما يغني الفن التشكيلي العربي ليكون علامة بارزة في انسانيته، وعميقة الجذور في تاريخ الحركة التشكيليةالفلسطينية.