سهير عبدالحميد
«لم أجد أديبا شغل الدنيا وشغل النقاد بقدر ما شغلهم نجيب محفوظ» هذا ما قاله الناقد لويس عوض، ليعبر عن واقع غزارة وتنوع الإنتاج الروائى لمحفوظ الذى جعله دوما تحت ميكروسكوب النقد.
الناقد رشيد العناني أحد أهم النقاد المعاصرين الذين اهتموا بأدب نجيب محفوظ وقدم عنه مجموعة مهمة من المؤلفات. د. رشيد العنانى الأستاذ الفخرى فى جامعة «إكستر» البريطانية وعضو مجلس أمناء جائزة البوكر العربية ومؤسس سلسلة الدراسات النقدية للأدب العربي التي تصدرها دار نشر جامعة إدنبرة باسكتلندا، وهي الوحيدة من نوعها بالإنجليزية.
لماذا حظيت مقالات نجيب محفوظ التى نشرها على صفحات الأهرام باهتمامك، وما أهميتها فى دراسة مسيرة نجيب محفوظ؟ وما السمات المميزة لها؟
مقالات نجيب محفوظ فى الأهرام امتدت على فترة عشرين سنة من 1974 إلى 1994 وهذا بدون حساب المقالات التى استمرت عن طريق التحاور مع محمد سلماوى في السنوات التالية لحادثة الاعتداء على محفوظ فى 1994.
هذه المقالات تختلف عن بقية أعمال محفوظ لأنها كانت مقالات صحفية تهتم بالشئون العامة والأحداث الجارية وليست أعمالا أدبية. كانت مقالات أسبوعية تلاحق الشأن العام مصريا وعربيا وعالميا بالرأي والتعليق المباشر، وتتجول بحرية بين السياسة والاقتصاد والمجتمع والحرب والسلام والتاريخ وكل ما تستدعيه المناسبات في وقتها. هذه كتابة مختلفة تماما عن كتابة محفوظ الروائى الذى يشيّد أعمالا فنية هائلة ويخفي بين طيات أحداثها وشخوصها ورموزها مواقفه السياسية والاجتماعية والفلسفية، تاركا استخلاصها لحصافة القارئ والناقد. فى مقالات الأهرام نحن أمام آراء محفوظ وجها لوجه فى لغة تقريرية مباشرة، بلا حوائل ولا مواراة ولا رموز. ليس لهذه المقالات أهمية اليوم لدى القارئ العادي، فقد انتهت مهمتها بانتهاء مناسباتها.
ولو كان نجيب محفوظ كاتبا صحفيا أو محللا إخباريا عاديا، لما كانت تلك المقالات جديرة بالجمع والحفظ والرجوع إليها. أي أن أهميتها ليس في حد ذاتها أو محتواها ولكن في أن كاتبها كان نجيب محفوظ. وهذه الأهمية الآن تقتصر على دارسي نجيب محفوظ الروائى العظيم، أي على النقاد والأكاديميين. فنحن في دراسة محفوظ الروائي نسعى دائما لاستخلاص مواقفه السياسية والاجتماعية والفلسفية عن طريق تحليل رواياته، ومن هنا تأتي أهمية المقالات فهي تتيح لنا مقارنة آرائه الصريحة المعلنة في هذه المقالات المباشرة بآرائه المستترة في أعماله الأدبية وملاحظة ما قد يكون هناك من اتساق أو تباين بينها. ولنقدّم مثالا. نستشف من روايات محفوظ وخصوصا «الثلاثية» مدى إعجابه بثورة 1919 وبالزعيم سعد زغلول، ونستشف من غيرها مدى إعجابه بالنضال الوطنى لحزب الوفد التاريخى وزعيمه مصطفى النحاس. نستشف هذا من السرد ومن كلام وأفكار الشخصيات ولكننا لا نعلم علم اليقين أن ذلك الإعجاب أو الإجلال هو رأي الكاتب أيضا إلا عندما نقرأ مقالات نجيب محفوظ فى الأهرام. وسيلاحظ المتابع أنه على مدى عشرين عاما كان محفوظ في مقاله الواقع في تاريخ 23 أغسطس أو حواليه من كل عام يكرّس مقالته لتكريم ذكرى كل من سعد زغلول ومصطفى النحاس وإنعاشها لدى الأجيال التى لم تعاصرهما، ذلك أن ذلك التاريخ هو تاريخ وفاتهما المشترك، إذ رحل زغلول فى 23 أغسطس 1927 والنحاس فى 23 أغسطس 1965.
مثال آخر: ندرك كذلك من قراءة روايات محفوظ في فترة الستينيات من القرن الماضى، مثل «اللص والكلاب» و«الشحاذ» و«ثرثرة فوق النيل» و«ميرامار» أنه كان لمحفوظ مآخذ شديدة على ثورة 1952 والنظام الناصرى لكن إدراكنا هذا غير مباشر يتسلل إلينا من تصويره للشخصيات وسلوكياتها وتعامل النظام معها. لكن إذا ما راجعنا مقالاته في الأهرام على مدار عشرين سنة مرة أخرى نجد أنه يخصص مقالته فى 23 يوليو أو حواليه من كل عام لتفنيد سلبيات 1952 تفنيدا صريحا قاسيا، بدون أن يفوته ذكر محاسنها أيضا.
هذان مثالان واضحان من أمثلة كثيرة ممكنة لبيان التفاعل بين المقالات والروايات وأهمية ذلك لدارسى الكاتب. وقد أسعدني جدا أن هذه المقالات كانت آخر ما تُرجم من أعمال الكاتب إلى الإنجليزية، بعد أن أتمت الجامعة الأمريكية ترجمة كل أعماله الروائية منذ سنوات. فقد أخذت دار نشر بريطانية تُدعى «جينكو» Gingko على عاتقها ترجمة وترتيب تلك المقالات تاريخيا وتم نشرها في أربعة مجلدات استكتبتنى الدار لوضع مقدمة لكل منها.
بدأ نشر المجلدات فى 2015 وصدر الرابع والأخير في 2020. والجدير بالذكر أن هذه المجلدات تشمل، بالإضافة إلى مقالات الأهرام على مدى عشرين عاما، المقالات التى كتبها محفوظ فى الفلسفة والأدب في مطلع حياته الأدبية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي ونُشرت في «المجلة الجديدة» و«الرسالة» وغيرها من مطبوعات تلك الفترة.
بعض النقاد عابوا على نجيب محفوظ استخدام الفصحى على لسان شخوص رواياته حتى لو كانوا من الحرافيش، فهل تعتقد أن هذا السؤال مازال قابلا للطرح؟
أرى أن هذا سؤال قديم وبلا معنى وينبغى الكفّ عن طرحه. كتب شكسبير 36 مسرحية أغلبها صار مخلدا فى التراث البشرى. كتبها كلها شعرا وكانت شخصياته تجمع بين الملوك والنبلاء وأيضا الحرافيش. لا أحد يتكلم شعرا يتساوى في هذا كل طبقات الناس. وعلى مدى الأربعمائة عام منذ شكسبير لم يسأل أحد: لماذا كانت شخصياته تنطق نظما وهو ما لا يفعله أحد على وجه الأرض في أي ثقافة، جاهلا كان أو متعلما، فقيرا أو ثريا. إنما هو تقليد كتابى اتبعه شكسبير ومعاصروه فى إنجلترا وفرنسا وابتدعه الإغريق قبل أولئك وهؤلاء. ونحن حين نشاهد شكسبير اليوم نبدأ من تلك النقطة، أى أنه يتبع تقليدا ولا نستغرب أن شخصياته تتحاور على المسرح شعرا. نجيب محفوظ أيضا كان يتبع تقليدا. الفصحى كانت «وما زالت» لغة الكتابة، فكتب بها ولم يميز بين السرد والحوار. ليست هناك مشكلة لأننا كقراء نتأقلم مع ذلك لأننا نقرأ من داخل التقليد المرعى، ولا يجب أن ننظر من الخارج ونقول ولكن الناس فى الشوارع والبيوت لا يتكلمون هكذا. هناك كتّاب آخرون اختاروا أن يكسروا التقليد فيفرقون بين لغة السرد ولغة الحوار. لا بأس. هم أيضا مقبولون ونقرؤهم من داخل اختيارهم الواعى. وهناك اليوم من يكتبون السرد والحوار معا بالعامية، وهم بذلك ينشئون تقليدا جديدا قد نرحب به أو نتوجس منه، ولكن لا أحد يملك اللغة. لا أحد يستطيع أن يقنن للغة والكتابة. اللغة هى ما يتكلمه الناس وما يكتبه الناس. هناك تقاليد تبقى وأخرى تزول وثالثة تتولد من القديم والجديد. وليس من شأن أحد أن يقف حارسا على اللغة وطرائق الكتابة قائلا: هذا يجوز وذاك لا يجوز. ومع ذلك فإن روايات محفوظ تنضح بالواقعية رغم حديث أشخاصها بالفصحى. كما أن محفوظ طور لغة الحوار عنده في مراحل حياته حتى وصل بها إلى شيء وسط بين الفصحى والعامية، مرسيا بذلك تقليدا جديدا، ومن يدرس أسلوبه سيجد ميلا متزايدا لاستخدام المفردات العامية التى هى أصلا فصيحة ولم تصبح «عامية» إلا بكثرة الاستخدام اليومى. وسنجد كذلك أنه أصبح يميل إلى استخدام بعض تراكيب الجملة العامية بدلا من الإصرار على التركيب النحوى، مقتربا بذلك خطوة أكبر نحو لغة الكلام.
اهتممت بدراسة القضايا الفكرية التي احتلت مساحة فى روايات محفوظ. فما أهمها وماذا كان موقفه منها؟
لقد نشرتُ عدة كتب بالعربية والإنجليزية عن نجيب محفوظ وهي فى الحقيقة الإجابة عن سؤالك هذا الذى لا تتسع الجريدة للاجابة عنه. نجيب محفوظ صاحب نظام فكرى متكامل. هو روائي فيلسوف نخرج من مجمل أعماله برؤية متكاملة للحياة وفكر متسق فى أمور المعاش والممات. في هذا العالم وفي العالم الآخر. في أعماله يبسط محفوظ آراءه عن طريق شخصياته في الدين والطبيعة وما وراء الطبيعة، في الزمن وعلاقته بالفرد والجماعة، في المجتمع وتنظيمه، في السياسة والحكم، في العدل والظلم، في الديمقراطية والشمولية. نجيب محفوظ تكوَّن عنده من مطلع حياته العقلية ودراسته الفلسفية مجموعة من الثوابت الفكرية أنفق حياته بعد ذلك فى تطويرها والتعبير عنها فنيا في إنتاجه الأدبى الغزير. فمن أين نبدأ؟ فلنكتف بالتلخيص المخل ميتافيزيقا. أعتقد أن أعمال محفوظ تشير إلى يقين لا يخلو من شك سياسيا واجتماعيا واقتصاديا،هو ديمقراطى ليبرالى يؤمن بالحرية الفردية وحرية التعبير والحقوق الإنسانية. يؤمن بالعدالة الاجتماعية ويقف في صف الإنسان العادي ضد المستغلين. هو ضد الديكتاتورية وكل ألوان الحكم الشمولى.
كما أنه يؤمن بفصل الدين عن الحكم ويؤمن بالتعددية والتسامح وقبول الآخر في كل صوره. هذه مجموعة من الأفكار والقيم المجردة التي تستخلص من عشرات الروايات والقصص ومئات الشخصيات والمواقف التي ابتدعها في إنتاجه الأدبي الغزير.
***
*الأهرام 26 أغسطس 2022.