يوسف جورج حدّاد – سوريا
النصّ:
صاح منصور بزوجته، وهو يذرع الغرفة كثور هائج:
طفح الكيل، والرجل ينتظر بضاعته… فإلى متى سنماطل ونؤجّل؟
أجابته بنفور مماثل: لا… قلت لا… لن أقبل بعد الآن بما تمليه عليّ… ألا تشفق على روحي المعذّبة؟ أليس من اعتبار لكرامتي لديك؟… لقد أجبرتَني على الفاحشة تحت الضرب والتهديد، وكلّ ما تصبو إليه حفنة من المال. أمّا أنا، فأتمزّق من الداخل، ولا يبقى من روحي سوى فتيلة لا نار فيها، وقلبي أصبح من حجر… كفاني تعاسة فوق تعاسة!…
-لكنّك زوجتي، ومن أملاكي، ولي الحقّ في أن أتصرّف بما أملكه كيفما أشاء… هل فهمتِ؟
-لماذا تسقيني هذه الكأس المرّة؟ وهل فرض عليّ أن أكون سلعة رخيصة في سوق مكتظّة بالرجال، أصحابك القذرين، الذين يبحثون عن ضالّة، ولو في الشوارع المظلمة؟… ارحمْني، وابحثْ عن وسيلة أخرى لجني المال…
-نحن في زمن الجوع… هل نسيتِ ذلك؟ ولسنا وحيدين في سوق التجارة… إنّها أفضل مكان نستطيع فيه أن نحصل على القوت، فماذا تخسرين؟… نصف ساعة… ساعة… وينتهي كلّ شيء، وتعودين إلى ذاتك عزيزة مكرّمة…
-كلاّ… لا أنسى… فالقروح في جسدي الطريّ تصرخ من تحت الثياب، ودمي يغلي في عروقي، فأكاد أنفجر… لا أنسى يا منصور أنّه زمن الجوع، وأنّ العديد من النساء تخلّين عن الشرف، لكي يبعنَ أجسادهنّ… بيد أنّ الشحاذة، وأكل العشب من الحقول، وارتداء الملابس الممزّقة، أشرف بكثير من بيع الذات لمن لا يستحقّونها… لو أحببتُ رجلاً ووهبتُه نفسي، لكان ذلك في سبيل الشرف… شرف الحبّ… أمّا احتقاري من قبل أبناء الشوارع والأشرار الملاعين، فيجعلني أصغر من حشرة في التراب…
-يبدو أنّكِ أصبحت أكثر فهماً ونضوجاً الآن، وأسمع منك خطاباً أين منه خطب الملوك والرؤساء! اصغي إليّ… هي كلمة واحدة، ولن أقول شيئاً بعدها: الطاعة… ثمّ الطاعة!
-أطيعك في كلّ شيء، فأنا امرأة عاقلة ومتواضعة، ومن أسرة فقيرة… لا مكان للتعجرف عندي، ولا تتوق نفسي إلى الشرّ ومعاندة شريكي في الحياة. هي كلمة واحدة: الموت… الموت ولا الذلّ بعد الآن.
لم ينبس منصور ببنت شفه، بل هجم بجسده الثقيل على طفلة كبيرة هي زوجته، ولو كان في كيانه ذرّة من الكبر، لكان عانقها بحرارة وعظّم قدرها، وندم ندماً شديداً أمامها على ما مرّ من الأيّام… وهل يمكن لبشريّ تقمّص وحشاً برّيّاً أن يعترف بالقيم السامية ويقدّسها؟!
وضع يديه الباردتين حول عنقها، وأراد أن يخنقها ويتخلّص من عنادها. لكنّها استجمعت قوّتها وعزيمة أقوى من عزيمة الأبطال، فلكمته بقبضتها على رأسه، فانحلّت أصابعه الأقوى من الحديد، واستطاعت أن تفلت من براثنه للحظة، لكنّه تماسك، وجذبها من ثوبها ليمنعها من الخروج… ولم تكن هي ضعيفة، بل قاتلت بضراوة، كما قاتل هو أيضاً… فاصطدم رأسه بالقنديل المشتعل في سقف الغرفة، فسقط القنديل، واندلعت النار، ففرّ إلى الخارج مذعوراً… وتركها تكافح وحدها، فاحترق جانبٌ من وجهها، وصرخت من الألم… وبعد جهد تمكّنت من مغادرة الغرفة، والنجاة بأقلّ خسارة ممكنة.
وصل عبدالله، فرأى الغرفة تحترق، ومنصور وسلمى في الخارج يتصايحان. وهاله أن يرى أخته قد تشوّه محيّاها الرقيق، فخلع قميصه بسرعة، ووضعه على الجانب المشوّه من وجهها، بينما كانت تبكي بصوت خفيض وتنهمر دموعها كمطر، ومنصور كجبل الثلج، لا شعور له ولا شفقة على زوجته…
ماذا حدث؟… سأل عبدالله …
أجابت أخته: هو… هو… يريد أن يبيعني إلى الرجال…
رمق عبدالله زوج أخته باحتقار، وصاح به: أيّها السافل الفاقد للضمير… حسابك عندي… وقبل أن ينهي كلامه، أقبل إليه منصور وضربه بعنف، فأسقطه أرضاً، وبينما كان عبدالله يلتقط أنفاسه، ليعود إلى المواجهة، أمسك منصور بالعصا، وانحنى يريد أن يسحق رأس الفتى…
اندفعت سلمى بجسارة، فطوّقت عنق منصور بقميص أخيها، وشدّته إلى الوراء… فسقطت العصا من يده… قاوم كثيراً، وهي تشدّ وتشدّ…
نهض عبدالله عن الحضيض. فصرخت به: أتركه لي… ثمناً لكرامتي… لا شأن لك في هذا…
تضاءلت عزيمة منصور… ولم يفلح في الخلاص من القميص الذي يقبض على عنقه، وكانت سلمى تلفّ رجليها النحيلتين حول جسده، فدار في حلقة مفرغة وهي لا تزيح عن ظهره… لم يكن سهلاً عليه التخلّص من المصير المحتوم… لوّح بقبضتيه في الهباء، ثمّ ترنّح وانهار، فسقطت هي معه، وبقيت على إصرارها، حتّى أصبح كتلة باردة من الإنسانيّة… وفي أقلّ من دقيقة خارت قواه… ولفظ روحه…
قال عبدالله لأخته: انقضى الأمر…
وبينما كانت النار تلتهم الغرفة البحريّة التي شهدت على حياة منصور، وانحطاطه، وموته الشنيع… كان عبدالله وأخته، يغادران المكان، ويتركان على الرمال وقع أقدام رقيقة، ودموعاً حارّة، هي شهادة من شهادات كثيرة، لا تتّسع لها الكتب، على زمن الجوع والمأساة.
***
2- قراءة الأستاذ يوسف جورج حدّاد
بناء الشخصيات النفسي وأثره الفنّي في نص من الرواية:
أسمح لنفسي في هذا المقام أن أضع لغة البحث الدارسة جانباً، وأمضي في تقديم قراءة انطباعيّة أوّليّة لهذا النّص الروائي، وأحصر كلامي في قضيّة هامة، ألا وهي البناء النفسيّ للشخصيات وما يضفيه من أثر فنّي في هذا النّص. وأوّل ما يمكن قوله أنّ الكاتب قد استطاع أن يصوّر عالماً واقعيّاً في نصّه عن طريق هذه القصّة المأساويّة، وقد التزم بعناصر المأساة التقليديّة حينما جعل شخصيّة (منصور) لا تحمل أيّ معنى أخلاقي، فكانت هذه الشخصيّة صورة للشرّ المطلق الذي استقاه الكاتب من واقع الحياة العربيّة، مشيراً بذلك إلى ما تعانيه من ظلم وضيم وعبوديّة، وقد ساعدتْ هذه القصّة ولاسيّما في المقطع الأخير على نقل المشهد العربيّ الذي ينتظر، وإن طال الأمد أن ينهض نهضةً جبّارة كالتي قامت بها (سلمى) حينما رفعت وجهها أمام ذلك الظلم الذي يقع عليها، وتمكنت في النهاية أن تنال حرّيّتها بعد ألم ومعاناة كبيرين.
يكاد القارئ يلمح في شخصية (منصور) بعض المبالغة الأدبيّة في تصويره على هذا الكمّ من الانحطاط الأخلاقيّ والإنسانيّ، لولا أنّ الواقع الذي يعانيه الإنسان العربي هو كذلك، فإنّ الكاتب لم يفارق الحقّ في تقديم هذا النموذج من الشرّ الذي يوافق ما يحصل في الأوطان العربيّة، ولكنّ الشيء الذي كان ينقص هذه الشخصيّة هو أن يبرز في داخلها مونولوغ يبيّن صراع قوّتين أو صوتين يتجاذبان الفعل الذي سوف تقوم به، ولو توفّر ذلك لكان المشهد أكثر تأثيراً في نفس المتلقّي، وذلك لأنّ فعل الشخصيّة في النّص الروائيّ أو القصصيّ، أو حتّى المسرحيّ لا بدّ أن يكون منطقيّاً، ويقصد بذلك أنّ الكاتب لو جعل فعل هذه الشخصيّة ناجم عن ذلك الصراع الذي يدور في دواخلها واستسلامها في النهاية إلى الصوت الشرُّّير وتغلّبه على الخير، لأدى ذلك إلى منطقيّة الفعل الذي قام به، وقد وجد هذا الشيء في الحوار بين (سلمى) و(منصور) بوصفهما قوّتين للشرّ والخير تتصارعان، ولكن لم يوجد بين (منصور) ونفسه، أو لم توجد إشارة إلى أنّ ذلك الفعل اللاأخلاقيّ هو فعل جبريّ، ممّا يضفي على النصّ بُعداً تأمّليّاً عميقاً، فيقوم بتصوير (منصور) حائراً أو متردّداً ولكنّه يقدم على الفعل القبيح، إذ يعتمد الكاتب في ذلك أنّه لا يوجد في الطبيعة شيء مطلق، فحتّى إبليس لم يعدم من بعض الرحمة كما يقول الأديب الراحل (ميخائيل نعيمة)، أو أن يصوره في نهاية الرواية منكسراً مهزوماً حزين النفس بدت على ملامحه مظاهر التوبة والرضوخ للحقّ، إلّا أنّ الكاتب فضّل أن يقدّم مشهداً تتصارع فيه القوّتان، فتقهر واحدة الأخرى، وإن صحّ هذا في واقع الإنسّانيّة التي لم تجد لهذه المتاهة من مخرج.
فالتسليم بوجود الشرّ يشبه ما توصّل إليه الطبّ الحديث من أنّ المضادّات الحيويّة التي تُستخدم في معالجة الأمراض، هي من أخطر الوسائل التي تهدّد مناعة الإنسان، لأنّها تقوم بقتل الخلايا المفيدة والجراثيم على السواء، وتنذر بتكيّف الجرثوم مع ذلك الدواء ليكتسب مناعة ضدّه، فيصبح بعد ذلك أشدّ فتكاً من الذي سبقه.
يُمدّح الفنّان المبدع والقادر حينما يخلق لوحة فيستنبط أجمل ما فيها، ثمّ لا يُعاب أيضاً أن يرسمَ أخرى فيُظهر أقبحَ ما فيها إلى أقصى درجات القبح التي لا يمكن النظر إليها، فهل هو في الأولى فنّان جميل وفي الأخرى فنّّان قبيح!؟
أم هو في الحالتين فنان أبدع في اللوحتين فينسب إبداعهما إليه!؟
وقد أشار إلى هذا المعنى المتصوّفُ الكبير جلال الدين الرومي بما يُعرف بـ(وحدة الخير والشرّ) والذي ركّز عليه أيضا الأدب المهجريّ عند (جبران ونعيمة وأبي ماضي) وغيرهم، فوُجدت في مؤلّفات هؤلاء الأخيرة تلك المعاني، وأشدّها تطرّفاً وعمقاً أنّ الإنسان من غير الممكن أن يميّز بين الخير والشرّ لأنّهما نسبيّان، والسبب فيهما غارق في اللاسبب، والكثير من هذه الأفكار التي تؤكّد هذه الحقائق الوجوديّة.
وينطبق هذا أيضاً على شخصيّة (سلمى)، فقد أقدمت على قتل (منصور) وتحوّلت إلى ذئب شرس بعد أن أجبرها على تلك الأفعال، وزاد في معاناتها، ولكن من الممكن أن يسأل متلقّي النّص: ألقتل أشدّ أم ما كانت سلمى تعانيه؟ ومَن الذي قُتل؟ فلو قُتلت هي لكان المشهد دراميّاً مأساويّاً إلى أبعد الحدود، وهنا أراد الكاتب أن ينهي روايته على ذلك النحو، من غير أن يفسح مجالاً لحوار بسيط بعد أن أصبحت (سلمى) بموقف القويّ الثائر الذي امتلك القدرة على البطش، ولماذا لم تتركه وشأنه ثمّ يأتيه مصيره من يديه بطريقة أخرى؟
هكذا أراد الكاتب أن تبقى روايته واقعيّة، وهي في حدود الواقع تطابق ما تجري عليه السّنن الكونيّة، وتعكس حال الإنسانيّة بين الغالب والمغلوب، وقد أبدع النّص في تجسيد تلك الحالة ونقلها إلى المتلقّي، ولا سيّما حينما جعل الأنثى (سلمى) مدار الشرف، في موضع مهدّد بالخطر، وهذا يفسّر ردّة فعلها القويّة في السياق الفنّي، وأنّها ما كانت لتقدم على ذلك لولا شناعة الأفعال التي أجبرها عليها زوجها الظالم.
ولا ننسى أيضاً شخصيّة الأخ (عبد الله)، وقد فضّل الكاتب أن يكون المنقذ هو، وليس عشيقاً أو رجلاً آخر يريد الزواج منها، وهو بذلك قدّم لفتة فنّيّة بارعة أكدت براءة تلك المرأة وطهارتها، وأنّها تريد أن تتخلّص من هذا الشرّير كي تحيا بسلام، لا لمآرب أخرى.
تميّز النّص بالجرأة في طرح مثل هذه المواضيع التي احتوت على الكثير من الإشارات الاجتماعيّة والسياسيّة، وكانت محاولة ذكيّة من الكاتب لتجسيد الواقع العربيّ المخيف، وهو صورة حقيقيّة لما آلت إليه الظروف الاجتماعيّة، ولا يعدم المجتمع في هذه الأوقات أمثال (منصور) و(سلمى)، وهذا الأمر لا يمكن إغفاله بأنّ واقعيّة الأدب أمر لا مفرّ منه في الأزمنة التي يطلب فيها المجتمع النماذج الثوريّة، والتي تعبّر عن الحاجة الماسّة للتغيير، وللشجاعة التي لا بدّ منها في نهاية المطاف.
لا يلغي الكلام السابق أن يحتوي النّصّ الأدبيّ، إن هو أراد أن يحاكي الواقع، أو أن يقدّم ولو بقدر محدود، بعض المثاليّة التي لا يعرفها الواقع، فوظيفته على الأقلّ أن يخفّف من وطأة التاريخ، ويقلّل من الألم قدر الإمكان.
***
*من كتاب الجلسة الحواريّة حول رواية الأديب جميل الدويهي ” حدث في أيّام الجوع” – مشروع الأديب د. جميل الدويهي للأدب الراقي – سيدني النهضة الاغترابية الثانية – تعدد الأنواع.