مجلة “خطابات”: في تشكيل وعي مضاد للاحتلال

 

عماد عبد اللطيف (تصوير: محمد الكاشف)

  محمود منير

 

تُراكِم مجلة “خطابات”، التي صدر مؤخراً عددها عن “مركز المدار المعرفي للأبحاث والدراسات” في الجزائر، دراساتها النقدية للخطاب بأنواعه المختلفة الدينية، والسياسية، والأدبية، والاجتماعية، والإعلامية، والتربوية، وغيرها من زوايا نظر مختلفة يقدّمها باحثون ينتمون إلى مجالات معرفية متنوّعة.

يركّز العدد الأخير على قضية المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي من خلال خمسة بحوث تسعى إلى الكشف عن دور اللغة والبلاغة، والصورة المرئية والاستعارية، ووسائل الاتصال ووسائطه وتأثيراتها الفعّالة والحاسمة في الصراع الدائر بين المقاومة والاحتلال.

في حديثه لـ”العربي الجديد”، يلفت أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب ورئيس تحرير المجلّة، عماد عبد اللطيف، إلى أن الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي لم يكن صراعًا مسلّحًا فحسب في أيّ مرحلة من مراحله. فمنذ كان اغتصاب فلسطين مجرّد خطّة على الورق كان الخطاب أداةً أساسية من أدوات فرضه وتحقيقه. وإذا كانت العصابات الصهيونية نجحت، بواسطة المذابح وجرائم الحرب، في تفريغ الأراضي الفلسطينية من سكّانها، فإن التلاعب بالخطاب على المستوى الدولي نجح في إظهار مجرم الحرب في صورة الحمل الوديع، وإظهار الضحايا المهجَّرين من سكان فلسطين الأصليّين على أنهم هم القتلة المجرمون.

ويتابع “هُزم العرب عسكريًا في حربي 1948، و1967، لكن هناك هزيمة أخرى مهمّة وقعت قبل ذلك، حين انتصر الإسرائيليون في معركة السيطرة على الوعي العالمي، بواسطة حزمة من الأساليب تجمع بين براعة الخطاب، وإحكام السيطرة على منافذ توزيعه، وترويع المخالفين، وتسخير القوى الإعلامية الكبرى لترويج أكاذيبها. الاحتلال الإسرائيلي يستند إلى مزيج من القوّة المسلّحة الغاشمة، والتلاعب بوعي وإدراك الشعوب لحقيقته. وإذا كانت القوّة العسكرية لا تقاومها إلا قوّة عسكرية مضادّة فإن التلاعُب بالوعي لا يقاومه إلا تشكيل وعي حر مضاد. ولا يمكن تحقيق هذا الوعي الحر دون دراسة خطابات التلاعب التي يروِّجها الاحتلال دراسة معمقة، ودراسة خطابات المقاومة بالقدر نفسه. وبالتالي فإن التحرّر من الاحتلال، وسلبه القدرة على مواصلة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها دوريًا بحق الشعب الفلسطيني والوصول إلى حلول عادلة، كل هذا يتطلّب كشف التلاعب الخطابي، وإساءة تمثيل الصراع، لا سيما على المستوى الدولي”.

ويوضح أن “خطابات” تحاول تقديم مساهمة محدودة في هذا الاتجاه بواسطة تخصيص عدد لخطابات المقاومة والاحتلال في فلسطين. ونأمل أن يكون العدد محفّزًا للباحثين في تحليل الخطاب العربي على إنجاز أعمال جماعية أُخرى في هذا الاتجاه.

ويبيّن عبد اللطيف أن “أهمية الفحص العلمي الدقيق لخطابات المقاومة والاحتلال تزداد في ظلّ تطوّر تقنيات التلاعب الخطابي في زمننا الراهن. فتقنيات تشويه الحقيقة، وتزييف الواقع تطوّرت بفضل التقنيات الراهنة. وبشكل شخصي، فإنني أظن أن العدو الأكبر للحقيقة في الوقت الراهن هو الشركات المالكة لوسائل التواصل الحقيقية منها أو الافتراضية”، منبّهاً إلى أنه يعتقد جازماً خلال الشهور الماضية أن فيسبوك، على سبيل المثال، “تحوّل إلى عدو للحقيقة، وشريك للاحتلال الإسرائيلي في الجرائم ضدّ الإنسانية التي ترتكبها في فلسطين. ففيسبوك يحجب غالبًا أية مشاهد للفظائع التي يرتكبها الاحتلال في فلسطين، وأيّ تحليل نقدي للاحتلال الإسرائيلي، وأي تنويه بالمقاومة الفلسطينية. ويضطر أي شخص يريد التعريف بما يجري على أرض فلسطين إلى اللجوء إلى حيل لغوية حتى يمرّر رسالته دون أن يحجبها فيسبوك. فيكتب البعض (إس.ر.ائ-يل) هكذا، و(الم-ق-ا-و-م-ة) هكذا مثلاً، كي تفشل خوارزميات فيسبوك في التعرف على المنشور، ولا تحجبه. في حين يلجأ بعض آخر إلى استعمال الكنايات والعبارات الموحية لمراوغة عدوِّ الحقيقة الجديد. هذا بالطبع أمر مُخزٍ من فيسبوك، وأثقُ أن الشركة المالكة لفيسبوك سوف تدفع ثمن هذا التلاعب من سمعتها وقيمتها، إنْ لم يكن حاليًا ففي المستقبل القريب”. ولكي يتحقّق ذلك، “نحتاج إلى تقديم بحوث علمية رصينة للخطابات الداعمة للاحتلال وجرائمه، وبالعودة إلى مفتتح الحديث فإن الصراع مع الاحتلال الوحشي صراع معرفي بقدر ما هو صراع اقتصادي وسياسي وعسكري”، يقول محدّثنا.

ويرى عبد اللطيف أيضاً أن دراسة خطابات الاحتلال، بما تكشف عنه من عنصرية وتمييز وتحقير للعرب وتلاعب بالحقيقة، ضرورية في ظلّ هرولة بعض العرب إلى الارتماء في أحضان الاحتلال. فلعلّ البحث العلمي الرصين لخطابات الاحتلال يكون حافزًا على مراجعة وكبح هذه الهرولة غير المنطقية. فمن غير المنطقي الانحياز إلى قوى تمارس بشكل منظم جرائم ضد الإنسانية في حق شعب عربي، وتنتج خطابات عنصرية وتمييزية ومحملة بكراهية بغيضة ضد العرب جميعًا.

ويبين أن الهدف من العدد الأخير هو دراسة المنتوج الخطابي للاحتلال والمقاومة الفلسطينية له، إذ كانت غاية مجلّة “خطابات” بالتعاون مع محرّر الملف الباحث إبراهيم عبد التواب، أن “نحفّز الباحثين على تقديم دراسات تُغطّي الخطابات المتنوعة للاحتلال والمقاومة مثل البيانات العسكرية، والخطب السياسية، والتصريحات الصحافية، وخطابات الوكالات الإخبارية والصحف الكبرى المحلية والعالمية، وخطابات المؤسسات السياسية الدولية والإقليمية، وخطابات المشاهير، وكذلك دراسة أنواع خطابية موجزة كان لها تأثير كبير في تلك الأحداث مثل الإنفوغراف، والتغريدات، والأناشيد والأغاني وغيرها”.

وتضمّن العدد بحوثًا غطت أنواعاً تواصلية جديدة مثل دراسة شهيرة عبد الله حول هاشتاغ “#غزة-تحت-القصف”. وهو بحث يعتمد على حقلين معرفيين هما التحليل النقدي للخطاب وبلاغة الجمهور في سعيه لمقاربة الوسوم الرقمية (الهاشتاغات) بوصفها استجابات بليغة من جماهير الشعب العربي في مواجهة خطاب الإعلام الإسرائيلي والمؤيدين له. ويحلل البحث جانباً من الصراع الرقمي بين المستخدمين وبعض مواقع التواصل الاجتماعي الداعمة للاحتلال الإسرائيلي مثل موقع فيسبوك الذي كان يقيّد ويحجب ويحظر كلّ مفردة ذات ارتباط وثيق بالقضية الفلسطينية.

وينقلنا بحث إبراهيم الطاهري إلى دراسة فن جداريات المقاومة الفلسطينية. ويستعين البحث ببلاغة الجمهور والسيمائية لإنجاز تحليل بلاغي وتشكيلي للصور والرموز والأيقونات والخطوط والألوان؛ يبرز استراتيجيات التأثير والإقناع ووسائل الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال والدفاع عن أرضه وعرضه وهويته. ويدرس عادل بن زين عيّنة من الصور الكاريكاتيرية ليُجلِّي للقارئ الدلالات المباشرة والضمنية والإيحائية للكلمة والرمز والصورة والملبس واللون، على المستويين الأيديولوجي والأكسيولوجي، وتمثيلاتها الثنائية لهوية طرفي الصراع المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي.

كما يفحص رشيد كريم الاستعارات التصورية في خطاب حركة حماس أثناء حرب سيف القدس في أيار/ مايو 2021، ويفيد من نظرية الاستعارات التصوّرية في استكشاف الأبعاد التداولية والحجاجية لهذه الاستعارات في خطاب المقاومة. وأخيرًا، يدرس حميد تعدويت تقنيات الحجاج المقاوِم في خطبة لتميم البرغوثي. ويحلّل بحثه التقنيات الحجاجية لهذا الخطاب الإقناعي، ويكشف عن الحجج التي ساقها البرغوثي لتفنيد خطاب الاحتلال، ذلك الخطاب الذي يضلّل الرأي العام العالمي مقدّماً “إسرائيل” في صورة دولة سلام تقاوم إرهابيين.

ويشير عبد اللطيف إلى اشتراكه في كتابة الكلمة الافتتاحية مع إبراهيم عبد التواب، محاولَين لفت انتباه الباحثين العرب إلى ضرورة الاهتمام بدراسة الخطابات الأكثر محورية في عالمنا العربي، انطلاقًا من المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية للمعرفة، لا سيما في العلوم الإنسانية والاجتماعية، مضيفاً “قمنا بفحص الدوافع المختلفة لتحليل الخطاب، بهدف تأكيد أن حلم تغيير العالم نحو الأفضل يجب أن يكون من بين الدوافع المحفّزة للباحثين في هذا المجال على إنجاز بحوثهم، وضرورة إدراك مسؤوليتهم تجاه مقاومة الظلم والقهر والطغيان بجميع أشكاله، لا سيما ما يتجسّد في شكل فج مثل الاحتلال الاستيطاني الباطش. كما حاولنا وضع العدد الخاص بخطاب المقاومة والاحتلال في سياقه نشره، الذي واكب الاغتيال المتعمّد للإعلامية شيرين أبو عاقلة، بوصفه فعلا رمزيًا للسعي إلى قتل الحقيقة، بواسطة قتل من ينطقون بها. ومن ثمَّ، إبراز أهمية أن يقول الباحثون كلمتهم، التي تصبح أمانة كبرى في ظلّ محاولات فرض الصمت على الجميع”.

يعود عبد اللطيف إلى ربيع عام 2017، حين بدأ العمل في الإعداد لمجلّة “خطابات”، وكان الهدف من تأسيسها أن تكون نافذة لنشر البحوث المعنية بالخطابات الأقل حظوة بالدرس في عالمنا العربي، ومنصة يلتقي حولها الباحثون المعنيون بالتحليل النقدي للخطاب وبلاغة الجمهور، وأن تحفّز الباحثين على دراسة ما يسميه “أمراض الخطاب” في عالمنا العربي، مثل التلاعب، والعنصرية، والكراهية، والاستبداد، والإقصاء، والتمييز، والاحتلال، والهيمنة، والكذب، وغيرها.

ويوضّح أنه منذ العدد الثاني، بُدئ في تخصيص محاور لدراسة أمراض الخطاب وقضاياه الأكثر إلحاحًا، فصدر عدد عن خطاب المرض، وآخر عن التلاعب في الخطاب، وثالث عن العنصرية في الخطاب وآخر عن خطاب المذابح التي ارتكبها الاستعمار في عالمنا العربي.

ويأمل عبد اللطيف أن تقدّم المجلة مثالاً يُحتذى في إدراك الباحثين في الدراسات العربية للمسؤولية الاجتماعية لمعارفهم، عسى أن تسلك مجلات علمية أخرى السبيل نفسه، فتتعزّز الصلات بين دراسات تحليل الخطاب والبلاغة العربية والمجتمع على النحو المأمول.

وفي هذا السياق، يكمل قائلاً: “حرصتُ دومًا على ربط بحوثي في تحليل الخطاب وبلاغة الجمهور بقضايا المجتمع الأكثر إلحاحًا وأهمية. حلمتُ بإنتاج معرفة تقاوم إساءة استعمال السلطة للخطاب، بواسطة تقديم معالجات نقدية للخطابات الأكثر تأثيرًا من ناحية، وتقديم معارف تمكِّن من إنتاج استجابات مقاومة للخطابات السلطوية من ناحية أخرى. درس أول كتبي ظاهرة التصفيق في الخطاب السياسي العربي، وأعدُّ هذا علامة دالّة على مساري البحثي. فقد كان هدفي من دراسة التصفيق فَهْمُ كيف يتلاعب الساسة باستجابات الجمهور لهم كما تتجلّى في التصفيق والهتاف، وكيف يتمكّن الجمهور من مقاومة تلاعب الساسة بهم، بواسطة امتلاك القدرة على إنتاج استجابات بليغة مقاوِمة للخطابات السلطوية، بهدف الوصول إلى تواصل حرّ نبيل”.

ويختم عبد اللطيف: “جُلٌّ ما كتبتُ خلال العقدين الماضيين ابتغى تحقيق هذين الهدفين. وحين أنظر الآن إلى تراكم البحوث في بلاغة الجمهور، على سبيل المثال، أشعر ببعض الرضا. فهناك عشرات الباحثين المتميّزين ممن كتبوا في هذا الحقل المعرفي العربي الجديد، وفي الوقت الراهن تُنجز عشرات البحوث فيه. كما أنني سعيد بتراكم الدراسات في التحليل النقدي للخطابات العربية، وهو الحقل الثاني الذي سعيتُ إلى ترسيخ العمل فيه تأليفًا وترجمة. وآمل أن يكون تراكم جهود الباحثين العرب في هذا المجال خطوة في طريق الوصول إلى عالم أكثر حرية وعدلاً وكرامةً”.

***

*العربي الجديد 20-8-2022

اترك رد