1-النصّ:
-الأمم عندما تجوع تأكل نفسها.
-وهي تأكل نفسها الآن… تصوّري أنّ الأنهار غارت، والينابيع شحّت، وكثير من الأغنياء لم يعد لديهم طحين، وباتوا يشحذون… أعرف رجلاً ثريّاً كان يصرف من أمواله دون حساب، وكان قصره لا يغلق أبوابه على الزائرين والضيوف، ولا يمرّ يوم إلاّ وعنده وليمة عامرة، وهو الآن يقتّر على نفسه، ويكتفي بالقليل… وسمعت أنّه باع السجّاد الذي كان في قصره لكي يعيش…
فقد أصبع رغيف الخبز بعشرين ديناراً، بعدما كان في أيّام الرخاء بربع دينار… وسمعت عن امرأة من الأغنياء، أرادت أن تبيع بعضاً من مجوهراتها لتشتري ما يسدّ رمق أطفالها. لكنّها لم تجد أحداً يشتري منها، فعادت إلى منزلها خالية، لتجد أطفالها يبكون، فنظرت إلى الجواهر التي في يديها، وتمنّت لو أنّها كانت تراباً، فلعلّها تنبت شيئاً يفيدها ويفيد عيالها… إنّ مَن لديه خبز أو طحين في منزله، فإنّه يخبّئهما خشية أن يأتي اللصوص ويسرقون أغلى ما يملكه.
2- قراءة الأديبة أوجيني عبود الحايك:
الأرض جذور البركة وشريان الوصال، ترابها البداية والنهاية…كريمة تعطي بدون منّة في كل الأزمنة، وفي زمن الضيق حين يشحّ الخير، تبقى الأوفى ويبقى ترابها يزهر بالأمل … حدث في أيّام الجوع ما لم يكن في الحسبان، نضبت جرار الخير والمداميك العالية انهارت، والأواني المذهبّة اشتاقت إلى المآدب والحفلات… استبدّ الغلاء والطمع، وازدادت أعداد تجّار الهيكل… تربّص الخوف النفوس من الغد القاتم ، من العوَز، من شبح الموت المخيف، وأصبح القوت هوَس النفوس… عبارات خطّها الأديب صداها يشبه الإنذار ‘الأمم عندما تجوع تأكل نفسها’، يبدأ الصراع من أجل البقاء… يتشبّه الإنسان بالحيوان حينها فيفقد مزاياه العقلية، تتوارى الحكمة فلا يعود يشبه الله الذي خلقه على صورته ومثاله. كم يبدو الإنسان صغيًرا وذليلًا أمام عظمة الخالق وقدراته، حين تمتحنه الصعاب … تختفي القشور المبهرجة فيصبح هزيلًا، سقيمًا… يتحوّل إلى هيكل عظمي… يفرغ من الابتكار، يتجرّد من الأنا، من الفوقيّة، فيدرك حجمه الطبيعي… عندها لا المال، ولا الجاه، ولا سبائك الذهب تستطيع شراء التميّز والأمان، والاستقرار، والقوت الروحيّ… يسابق الإنسان أحلامه في أيام الخير، يعيش الشغف، يقفل صوت المنبّه داخله، يتباهى بقدراته حتى يقع المحظور…
أراد الأديب الدكتور جميل الدويهي، عميد الأدب المهجري، الإضاءة على قيمة التراب مقارنة مع الدنيوّات، حتّى أنّه يفوق كل الكنوز قيمة وكأنّه ضمنًا يريدنا المحافظة على الأرض والمعول اللذين يرمزان إلى الأمان والأصالة والبركة… فالأرض كنزه، خياله الفتّي… عشقها وركض في أرجائها يسابق الريح…شذاها يسكن حناياه… حصاد العمر وسنابل الحكمة، والحبر الذي يفيض على سطوره… ‘حدث في أيّام الجوع’ صرخة العودة إلى الحقيقة والوقوف أمام مرآة الذات، دحض التكبّر والعنجهيّة، وعدم التفريط بأرضنا لأنّها هويّتنا وفخرنا لأنّها الرحم الدافئ… يخاف عليها أن تصبح لقمة سائغة في فم الطامعين… الأرض سرير الإنسان، مرسحه حيث يلعب أدوار الفشل والنجاح ، ونعشه الأبديّ… والتراب ذهبها وحنطتها، قوت البشر وخميرة الوجود.
***
*من كتاب الجلسة الحواريّة حول رواية الأديب جميل الدويهي ” حدث في أيّام الجوع” – مشروع الأديب د. جميل الدويهي للأدب الراقي – سيدني النهضة الاغترابية الثانية – تعدد الأنواع.