“فرح أنطون: قصص ونصوص غير منشورة(1903- 1906)… نافذة على قرن

 

 

  د. قصي الحسين

                                    (أستاذ في الجامعة اللبنانية)

جديد  الكاتب والإعلامي أحمد أصفهاني، هو حماسته التي كانت قد أحفزته منذ نصف قرن وأكثر لتتبع خطى الكبار الذين ساهموا في تجديد الحياة. وقد غابوا وبقيت آثارهم تدل عليهم. فكان أن تجرد للكشف عن الكنوز الثقافية، بعد أن غمرها غبار الزمن.

لكن جديد أحمد أصفهاني الباحث والمحقق، هو كتابه:  “فرح أنطون: قصص ونصوص غير منشورة(1903- 1906). إعداد وتقديم أحمد أصفهاني. دار نلسن. بيروت2022: 270 ص. تقريبا”.

( بمناسبة الذكرى المئوية الأولى لوفاته، وما رافقها من فعاليات ثقافية، يأتي هذا الكتاب كمساهمة متواضعة لإسترجاع نتاج مفكر نهضوي وصف بأنه “أبو النهضة الفكرية الحرة ورسول الديمقراطية في الشرق العربي. أديب إجتماعي قبل كل شيء. وفي كل شيء. وداعية للأخوة الإنسانية. وصحفي مجدد. وروائي مبدع. ومؤلف مسرحي من الطبقة الأولى، وكاتب سياسي).

هل هو “مجموعة.” إذن؟ سؤال يجيب عنه هذا الكتاب الذي بين يدينا. إذ أن القصص والنصوص التي حواها هذا المجلد، تكشف عن تنوع فرح أنطون في عمله. وفي ثقافته. وفي إهتماماته. ناهيك عن إصراره الدؤوب، لتقديم ما “يظنه وحده”، أنه ضروري لخدمة الناس، في حياتهم وفي مآلاتهم. وفيما يبتغون من ضروب التجديد، لأجل الرقي في منعرجات الظروف الدولتية.

( يا أخي وعزيزي وصديقي فرح! بأي لسان أرثيك ومن أية جهة أبدأ الكلام فيك؟ أفي تاريخ حياتك وهو صحيفة ناصعة البياض كتبت فيها أسطرا لامعة بجد السنين وجهاد الليالي والأيام؟ أم أتكلم في خلقك وخلالك الطيبة وقلبك الكريم؟ أم في ثمرات أفكارك التي غرست بذورها وتعهدتها في زرعها مع الرياح ليستفيد منها الشرق والعالم العربي أجمع؟ ص40)

قرر أحمد أصفهاني أن يختار فرح أنطون ويختار بعض الرسائل، مما إتصلت بحياته وربما بمماته من رسائل، شاهدا على قرن. جعل من نصوصه ومن قصصه، ومن الرسائل التي إتصلت به، شبه سيرة ثقافية له. تقربه من أهل هذا العصر، الذي أغلقوا بابته، بعد أن إنفتحت لهم بابة مختلفة. وصارت إهتمامات الأجيال الجديدة، أبعد بآلاف الأميال، من أجيال أخرى، لا زالوا على مسافة قرن أو أكثر. أو أقل.

( فالخلاف الكلي مثلا، هو أن يقول المهاجرون بعد هذا التفصيل: نحن لا يهمنا غير أنفسنا. أما بقية الأمة فلتخلص نفسها كما تشاء وبقدر ما تستطيع إذ لا يحاسب إلإنسان إلا عن نفسه. ص67)

وضعت هذة المقولة في صيغة الإنهمام بالتساؤل. وربما بصيغة الخواطر، التي إستيقظتني، وأنا أتابع مقولات فرح أنطون في المسائل الثقافية وفي المسائل الدينية وفي المسائل الفكرية، وفي المسائل السياسية، وفي المسائل الإجتماعية، وفي المسائل التربوية. ذلك أن فرح أنطون، لم يدع يما ولا حوضا ولا بحرا ولا محيطا، إلا خوض فيه. فهو مجموعة من الشباب الرائد والثائر والمجدد. وبيده كل بيارق الأوطان التي تشكو، مما لا يطاق فيها، من محن ومن إحن، ومن قسوة معاش. ومن شظف حياة. ومن أمل في غد أفضل، تصنعه الأجيال.

أمنيتي في عامها الأول مثل الملك/ صالحة للحب من كل وللتبرك/ كم خفق القلب لها عند البكا الضحك. ص96)

محاولة أحمد أصفهاني، هي تقديم فرح أنطون الناقد والمؤرخ والباحث والمؤلف والكاتب والشاعر والرائي والقائف. وما هذا القصص وهذة النصوص، إلا الشواهد المطمورة. فجلاها لعيون أهل هذا العصر، حتى يقول لهم، أن حريتهم لم تأت من فراغ. وأن الجدة عندهم والعصرنة، إنما هي إمتداد لطريق طويلة سار عليها المجددون، حتى بلغ أهل هذا العصر، في مدى قرن، ما بلغوه من حصاد الحضارات.

( مع الدهشة والإستغراب العظيم فهمت أيتها العزيزة كل ما ذكر فيه عن الحركات والإشارات. ولكني لما تجاوزت هذة الأمور الفكاهية الغريبة ووصلت إلى ختام الكتاب، وجدت فيه شيئا أغرب. ص117).

تتمازج هذة الحضارات، فقرة بعد فقرة ونصا بعد نص، وقصا بعد قص. فهؤلاء الكتاب والمبدعون الشوام. وهؤلاء المواطنون المصريون المستقلون والمستقيلون. وهذة هي “العثمانية” العتيقة . وهذة هي العثمانية المجددة. وهذة هي العثمانية الراحلة. وهذة هي سيرة الأوطان في رحيلها عن الأوطان.  هذة هي سيرة الذين يركبون البحر للنزول على البر الأميركي، خلف المحيطات. وخلف التركات. وخلف الثقافات التتريكية. بل خلف الأوطان التي لا تزال تعيش على “ثقافة المخدرات.”

( فننتظر منها في العدد الذي يليه مقالتين عنوان الواحدة ” واجبات الرجل العاقل” والأخرى ” واجبات الرجل الجاهل”. وإلا فإنني أقسم بأنني لا أعود أقرأ مجلة السيدات. ودمت لصديقك. ص 129).

أحمد أصفهاني، جعلنا نلتقي بفرح أنطون في لبنان. وفي مصر وفي أميركا. جعلنا نقتفي آثاره مع عائلته ومع أقرانه من الشعراء والأدباء والمفكرين. نجالسهم نحادثهم. نقص معه و معهم الأثر بعد الأثر، وندع غبار الطريق، لبنيات الطريق.

( وسبب إبتسامه على ما يظهر أنه شاهد في حديقة البيت فتى وفتاة جالسين على مقعد كل واحد منهما في طرف. وظهر أحدهما إلآخر. وهو يسند رأسه بيده ويفتكر بهم وغم. ص137).

لم يكن تجديد الفكر، معركته الوحيدة. ولم يكن تجديد التربية ولا تجديد الثقافة، همه الأكبر. بل كان يشارك في كل موضوع حياتي. وفي كل مسألة سياسية أو كيانية. وفي كل شأن بنياني للإمة وللأجيال وللرجال وللأطفال وللنساء على وجه مخصوص.

( مسكينات العذارى فإنهن ينخدعن بزخرفة الشباب وجماله وتانقه وملبسه. وجهال الشبان لأنهم لا ينظرون إلى آدب المرأة وأخلاقها وفضيلتها بل إلى جمالها الخارجي. ص155).

وإزاء ذلك، كان فرح أنطون، كما تطالعنا به رسائله وقصصه ونصوصه، التي تقفاها المحقق أحمد أصفهاني، هي التي تقول لنا كل شيء عن المنسيات من إهتماماته الفكرية والسياسية والإجتماعية والتربوية.

( ولما وقفت لميا على مرام عم جميل رفعت رأسها بإختيال كالطاووس وصارت تقول في نفسها ” حقيقة أن الشيوخ صاروا في هذا الزمان أسلم ذوقا من الشبان. ص163).

ربما كان فرح أنطون أكثر مفكر نهضوي، ترجم إلى لغات أجنبية. وأكثر مفكر نهضوي، برز بين النهضويين في عصره كشخصية فكرية جدالية. وربما كان أكثر رجال النهضة، تأويلا وتفنيدا وتتبعا، حتى اليوم. ولذلك كان هذا الكتاب الذي بين يدينا، يميط اللثام عن  شخصية حاججها الناس، وحاججتهم،وذلك عبر صفحات الجرائد والمجلات، التي ترأسها، أو كانت في ظل رئاسته لها. وتلك التي تتبعته مفكرا ومؤدبا ومشاغبا ومواليا، على مدى سحابة عمره الأدبي والثقافي، الذي عاشه أو عرفه، في لبنان وفي سوريا وفي مصر وفي أميركا على حد سواء.

( فإنتشر هذا الخبر في الإسكندرية بسرعة البرق وإستغربت العائلات ذلك. ص168)

طغت شهرة فرح أنطون على الحضور الألق، لعائلته ولأهله ولجماعته. وكانوا جميعا شركاءه في الآداب وفي التربية وفي الصحافة وفي الإعلام. ولهذا كانت حكايته، حكاية نبع أو نهر، يهدر من وادي قاديشا حتى وادي النيل،حتى البوسفور والدردنيل، وحتى المحيطات التي تحيط بالأمريكيتين. إذ كان تواصله الدائم مع أهل الثقافة والإعلام، لمما جعله يبز الجميع. بل يبر الجميع. بل يدخل في عراك ثقافي وفكري وتربوي مع الجميع.

( وا أسفاه أيتها السيدة لا تشددي العقاب على إبنتك. وإنزلي يوما إلى ميدان العلم لتري كيف يعامل فيه الذين لا يحبون الإنتقام. إن الثعالب تضحك منهم والذئاب تعبث بهم. ص 181).

كتاب أحمد أصفهاني، جامعا  قصص و نصوص المفكر النهضوي فرح أنطون، هو نافذة جديدة على قرن. إكتشفها المحقق، وأسرع إلينا ليأخذنا إليها، نطل منها على قرن مضى ولم ينقض بعد. لا زال يجثم على صدورنا، وكأننا في أول حرب عالمية. كأننا لم نعبر حربين عالميتين. كأننا كانت تنقصنا هذة الحرب، إمتدادا لقرن، بكل إحداثياته وبكل حدوثاته، وبكل أحداثه. إذ رأى المحقق، أن نعرف عن فرح أنطون المزيد والمزيد، من كنوزه المخبأة. يتعامل مع قضايا إنسانية ماضية، تنضم إلى جملة قضايا إنسانية معاصرة. بكلمات أخرى، يضعنا فرح أنطون أمام أرض جديدة مكتشفة من تاريخه الفكري والتربوي والإجتماعي والسياسي.  ففي هذا الكتاب التحفة: الفن والقص والنص. والإعلام المكتوب، وكأنه شريط فكري من “تلفاز” حر الضمير.

( فأنا عزمت على أن أشرح لكم هذة الأمور الثلاثة وأعطيكم السلاح الماضي الذي تقدرون على الإنتصار به في الحياة. واعني المفتاح الذي يفتح كل مغلق في وجوهكم. ص186).

ربما لا يكون قراء هذا الكتاب متفقين على حل فرح أنطون. وربما وجدنا التكرار وربما وجدنا التباين في النصوص. وربما وجدنا المقيم أفضل حالا من المهاجر. وربما وجدنا المهاجر أفضل حالا من المقيم. لكن التباين يصنع التنوع والتنويعات. وكلها نوتات القلب. ولا فرق بين قلب وقلب، في معاندة الحياة ومعادلتها على حد سواء.

( وكان هذا الشيخ المهيب يتكلم بسذاجة كسذاجة الأطفال وحماسة كحماسة الرجال. فلم يأت على كلامه إلا وقد صرخ صبي كان يرصدنا من بعيد وقال:

  • حقا هذا هو المجنون لا ذاك.

ثم فر الصبي ومر مرور العصفور في الهواء. ص183).

ولا شك أن هذة التحليلات المستجدة في تفسير ذلك المنعطف المكتشف و المستجد من التاريخ السياسي والفكري، سوف تحتاج إلى المزيد من الدعائم والتوثيق والشهادات. لكنها مدهشة في قدرتها على وضع سيناريوهات مقنعة، لأحداث صعب تفسيرها حتى الآن.

(هذا هو أحد المبدأين اللذين بنيت الرواية  عليهما. وهو مبدأ الأيدياليست الذي يدوس فائدته لكي لا يخون غيره. فمسكين أنت أيها العالم المغرور الذي رفض الثروة والجمال والشباب والجاه حفظا لعهده مع إمرأة. ص201).

لا قصص ولا نصوصا، دون حدوثها وحلولها في مكان. ولذلك فإن أرض الخلافة العثمانية  ربما نالت منها. ولذلك فإن أرض الشوام، قد نالت منها أيضا. وكذلك أرض النيل وغربة البحار والمحيطات. و حملات الحروب. وكذا الرعب من الإقتصاص.  وباتت مثل هذة “النصوص الأنطونية”، سوسيومكانية، ولو أن الموهبة عوضت جميع الخسائر. فمن ينسى موهبة فرح أنطون وتجربته وتجديده الذي نادى به. فكل ذلك أتى بهذة الأطوار من الكتابات. وبكل هذا من الإيقاعات المتصالحة أو المتصارعة أو المتناحرة. وبكل هذا الوهم للإنسان في مكابداته مع الذات. ذلك أن فرح أنطون، أو جامع إختياراته” أحمد أصفهاني،منتخبا و ساردا  ولاعبا وصانعا، يعلمان التقشف في النص وفي إصابة القصد بلا قصد.  وكذلك في الإضمار والتلميح وشحذ الأذهان من نافذة قرن على المكان.

اترك رد