سلمان رشدي…ما قبل الفتوى وما بعدها

 

 

واسيني الأعرج

               (روائي-الجزائر)

 

تعرض الكاتب الروائي سلمان رشدي لمحاولة اغتيال خطيرة (12 أغسطس / آب 2022) كادت تودي بحياته. الجاني هو شاب لبناني يدعى هاني مطر. رفض التهمة جملة وتفصيلاً، وأعلن براءته مما نسب إليه؟ مواصفات الفعل تذكر بالجريمة التي ارتكبت باسم الدفاع عن الدين، ضد نجيب محفوظ لأنه مسّ الذات الإلهية. ظهر فيما بعد أنه لم يقرأ حرفاً واحداً مما كتبه نجيب محفوظ. مع أن المنطق البسيط يقول إن سلمان رشدي يُساجَل ويُناقش لدحض أفكاره أو شكل كتابته. وقد ناقشه في وقت صدور الرواية كتاب عرب كثيرون منهم المفكر جلال صادق العظم الذي خصه بكتاب ذهنية التحريم (القسم الثاني). وهو ما قال به المجمع الفقهي وقتها (رابطة العالم الإسلامي) في مكة، إذ طالب بإقامة دعوى قضائية في بريطانيا على المؤلف والناشر. بينما رئيس لجنة الفتوى بالجامع الأزهر قال إن إراقة دم المؤلف ليس من الإسلام وأصوله وقواعده في شيء». بينما قال شيخ الأزهر وقتها محمد سيد طنطاوي «إن أفضل رد هو قراءة النص والرد على سلمان رشدي كتابياً وإظهار أخطائه».

نص آيات شيطانية في النهاية ليس تاريخاً وليس وثيقة علمية ولا كتاباً فقهياً أو دينياً أو تاريخياً، هو رواية. أي مادة تخييليه مهما ارتبطت بواقع تاريخي ما، ونقد الرواية يستوجب أدوات تحليل خاصة بها يفترض معرفتها قبلياً. هل قرأ منفذ الجريمة «آيات شيطانية»؟ هل قرأ أطفال منتصف الليل، (التي سبق أن فازت بجائزة البوكر برايز البريطانية)، العار، شاليمار، تحت أقدامهن وغيرها. أشكّ لدرجة اليقين. لو قرأ هذه النصوص لتردد في الإقدام على الجريمة، ولتفطن إلى أن انشغال سلمان رشدي ليس دينياً بالدرجة الأولى وإن استعمله كجزئية، ولكن التمظهرات الاجتماعية للمهاجرين وهوياتهم في صدامها مع الحاضر، في بلدانهم وفي المهاجر. المنافي مهمة ولكنها أيضاً قاتلة، تبتذل البشر، وتجهز على الهويات القلقة والقتيلة. موضوع مركزي في الجهود الروائية العالمية اليوم. سلمان رشدي الذي عاش في بريطانيا وأمريكا، لم يكتب في النهاية إلا عن علاقته الصعبة بمشكلات الهويات التي عاشها وعايشها. بوالده الذي سماه كذلك تبركاً بابن رشد الذي رأى فيها رجلاً حاول أن يوفق بين الدين والعقل، وبأرضه الأولى، مسقط رأسه، الهند (بومباي) والعالم المحيط بها، الذي تخترقه الحروب الهوياتية التحتية الصامتة. سلمان رشدي لا يمكن أن يُختزل في «آيات شيطانية» التي لم تقرأها الغالبية العربية التي نصبت لها المشانق لأن الرواية لم تترجم رسمياً على الأقل إلى اللغة العربية، الترجمة الوحيدة الموجودة على النت ضعيفة وغير دقيقة. من سخرية الأقدار كما يقول هو نفسه: «لقد عملت على الرواية لمدة خمس سنوات لأمنح لثقافة المهجر صوتاً، وأرى اليوم كتابي يحرق في الأغلب الأعم دون أن يقرأ من طرف الأشخاص أنفسهم الذين يتحدث عنهم.»

هناك ردود فعل كبيرة سبقت فتوى الخميني، تسببت في ضحايا كثيرين. في 12 فبراير 1989، طالب متظاهرون في إسلام آباد من السطات الأمريكية منع دار نشر فيكينغ بنغوان من نشر الرواية. خمسة أشخاص ذهبوا ضحية المظاهرات، بينما تم تمزيق حارس المركز الثقافي الأمريكي، وانتقلت الاحتجاجات إلى كراتشي. في 14 فبراير، أذاع راديو طهران فتوى الخميني على سلمان والدعوة إلى قتله. في 1991 هيتوشي إيغاراتشي مترجم الرواية إلى اليابانية، طعن بسكين بضربة قاتلة، وتعرض أيضاً مترجم الرواية إلى الإيطالية إيتوري كابريولو لنفس المحاولة. وجرح بالرصاص الناشر النرويجي وليام نيغارد؛ لأنه تجرأ على نشر الرواية في سنة 1993. بينما تعرض الكاتب التركي الساخر عزيز نيسن لمحاولة اغتيال حرقاً، ونفد بأعجوبة لأنه نشر الرواية إلى اللغة التركية، بينما توفي حرقاً 37 شخصاً. الإمام عبد الله في المركز الإسلامي في بروكسيل وقف ضد الفتوى. اغتيل في 29 مارس 1989 هو والمكتبي الذي يعمل معه سالم البحري. هل يستحق كتاب تخييلي كل هذا الدم مهما كانت قيمته أو درجة إساءته؟ لنتوقف عند العتبة الأولى، العنونة التي تثير شبهة الاعتداء الديني. سلمان رشدي لم يبدع جديداً. الآيات المسماة شيطانية جاءت برواية لابن إسحاق، أن النبي عندما قرأ سورة النجم بمجلس من قريش، بعد الكلمات «أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى» يقول ابن اسحق إن الشيطان وضع على لسانه تتمة جاء بها: «تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى». ففرحوا بذلك. ثم أخبره جبريل بما ألقاه الشيطان على لسانه، فحزن الرسول. سلمان رشدي استثمر الحادثة روائياً. من قرأ الرواية سيكتشف أنها استعمالات ربطها سلمان بشخصيات روائية في نصه. بالخصوص شخصيتي صلاح الدين شمشه، الهندي الذي عاش منذ صغره في بريطانيا وانسجم مع ثقافتها وقطع علاقته مع مجتمعه الأم. الشخصية الثانية جبرائيل فريشته، الممثل الهندي الذي اختص في الأدوار الدينية. اسمه الأصلي إسماعيل، سماه والده تيمناً بسيدنا إسماعيل، ونجم الدين أو نجم الإيمان. واستعار لقب جبريل وفاء لوالدته التي أحبها بقوة؛ لأنه تعذب مع والده في عمله الشاق جداً. مع الزمن، فقد إيمانه لأن دعوته للشفاء لم تنفعه. يجلس الاثنان قريبين أحدهما من الآخر، في الطائرة المسافرة من بومبي إلى لندن. وبسبب عمل تخريبي إرهابي، تنفجر الطائرة أثناء تحليقها. أثناء عملية السقوط يتحول صلاح الدين شمشه إلى شيطان، بينما جبرائيل فريشته يتحول إلى ملاك. ومن هنا تبدأ رحلة الرواية بانفتاحها على شخصية ماهوند، في مدينة الجاهلية، التي ينبت بالرمال، في الجزيرة العربية مع بداية ظهور الإسلام.

أين ذهب الزمن الذي كان فيه المسلم وغير المسلم يناقشان القضايا الدينية بحرية وبلا خوف من الأذى؟ أين الممارسات الحضارية التي سمحت لابن ميمون اليهودي أن يكتب بالعربية ولم يفرض عليه دين إلى يوم دخل الموحدون الأندلس بترسانتهم الجافة، فمحوا كل شيء واضطروه للهجرة إلى مصر. هي نفس الحضارة التي سمحت للغزالي ذي الأصول الفارسية أن يصبح مرجعاً دينياً وعلمياً. نعم، القتلة والوكلاء الدينيون أقلية بالنسبة لإسلام العقل والمحبة والعيش المشترك، ولكنها تمنح كل المبررات التي تجعل من كل مسلم شخصية إرهابية بامتياز. بقي سؤال لا يمكن تفاديه بعيداً عن نظرية المؤامرة: تخدم مَن هذه العملية الإجرامية؟ من يقف وراء هاني مطر الذي رفض التهمة كلياً؟ هل هي مصادفة وقرار فردي، في هذه الحالة.. لماذا انتظر المنفذ أو سدنة القتل كل هذا الوقت (الرواية صدرت في لندن في 28 سبتمبر 1988)، أم أن هناك جيشاً من البشر غير المرئيين يقف خلف الشاب؟ أسهل جريمة قتل هي قتل كاتب. لا يملك سلاحاً إلا لغته ومحبته. يذهب نحو قرائه أو يأتون نحوه بحب. يضعون الكتاب بين يديه قبل الانغماس في التوقيع. الوحيد الذي يتحكم في زمن الجريمة هو مرتكبها. ثم لماذا في هذا الوقت تحديداً حيث الاقتراب من توقيع الاتفاق النووي الذي يهم أمريكا وأوروبا، ويهم إسرائيل تحديداً (المالكة لترسانة نووية لا أحد يعرف ثقلها). الشيء الوحيد الذي قدمته جريمة الاغتيال هي أنها رفعت من حظوظ فوز سلمان رشدي بجائزة نوبل في الخريف المقبل.

***

* القدس العربي 17/ 8/ 2022

 

اترك رد