منيرة مصباح
في أحد ابياته الشعرية كتب قديما الشاعر ابو العلاء المعري معبرا عن رؤيته الفلسفية للحياة والكون والانسان:
خَفّف الوَطْء، ما أظن أديم الأرض إلّا من هذه الأجسادِ…….
زُحَلٌ أشْرفُ الكواكبِ دارًا من لقاءِ الردى على ميعادِ
وقال أبو تمام:
ثم انقَضت تلك السُنونُ وأهْلُها فكأنّها وكأنّهم أحْلامُ
لا تَنْشجَنّ لها فان بكاءَها ضَحِكٌ وان بُكاءَك استغْراقُ
وقال شاعر بريطاني: “ليس في هذه الارض الواسعة ذرة واحدة لم تكن يوما ما انسانا، ولا من نقطة صغيرة من المطر عالقة بأصغر غيمة إلّا وقد سالت في عروق إنسانية”
وحديثا قال الكاتب الأمريكي (“تود هنري” (die emptمت فارغا الذي حمل عنوان كتابه، بمعنى ارحل عن هذا العالم دون ان تحمل معك أي فكر، بل أعطي كل ما عندك من أفكار وابداع وغيره.
لذلك ما من فكر انساني الا وقد سال في عقول المبدعين والمثقفين، ومنهم الدكتور احسان عباس الأكاديمي الذي اعطى الكثير من فكره وتراثه للمجتمع العربي وترك لنا قبل رحيله عن هذا العالم الكثير من المؤلفات الادبية، منها 25 كتابا في النقد الادبي والتاريخ والسيرة والشعر هذا الى جانب ما قام به من ابحاث ودراسات حول كتب التراث التي بلغت أكثر من خمسين كتابا، والكتب المترجمة 12 كتابا من روائع الادب والتاريخ الانساني منها ” فن الشعر” لأرسطو، ويقظة العرب لجورج انطونيوس.
كما انه اهتم كثيرا بالادب والشعر الاندلسيين وألف العديد من الكتب حولهما، وحول شعراء الاندلس، من مؤلفاته حول الاندلس “تاريخ الادب الاندلسي عصر سيادة قرطبة” و “تاريخ الادب الاندلسي عصر الطوائف والمرابطين”.
ان اهتمام احسان عباس بالتراث جعله يتعمق في الفلسفة والنقد والترجمة، وقد بلغت كتبه حوالي 90 كتابا في مختلف المجالات الفكرية والادبية.
عاش احسان عباس في قريته عين غزال ودرس فيها مراحل طفولته بعدها تابع دراسته في حيفا ثم في الكلية العربية في القدس ودرس في العديد من مدارس فلسطين. وبعد وقوع النكبة عام 48 رحل من فلسطين وعاش في العديد من المدن العربية حيث تابع دراسته العليا في القاهرة، ومن ثم عمل في الخرطوم ثم انتقل الى بيروت عام 1961، وكان يحمل معه رصيدا كبيرا من العلم والثقافة. ثم تبوأ مركز المعلم والباحث والمحقق والناقد والمترجم في الجامعة الامريكية في بيروت، وكان قريبا من طلابه يزودهم من علمه ومعرفته الواسعة. ومقابل هذا ابتعد عن الحياة السياسية والحزبية التي كانت تزدهر فيها بيروت في سنوات الستينات.
انتقل الدكتور احسان عباس الى عمّان 1986 بدعوة من الجامعة الاردنية للعمل في مشروع “تاريخ بلاد الشام” وبقي فيها الى ان توفي وهو ينتظر عودته الى بلدته في جنوب حيفا. لذلك لم تظهر في سيرته الذاتية اي مدينة من المدن التي عاش فيها وتفاعل مع مجتمعها وثقافتها، وبقيت “عين غزال” بلدته الفلسطينية وما اكتسبه من معرفة هي الملهم الوحيد لروحه وعقله عبر مسيرته العلمية.
لقد اغنى احسان عباس المكتبة العربية بما قدمه من انجازات فكرية في كافة الحقول المعرفية وكانت سيرته الذاتية التي صدرت عام 1996 قد حملت في طياتها تلك القرية الجميلة التي ولد فيها هي المكان الذي يحن اليه ويحافظ على عاداته وقيمه. وكان يوصف بانه موسوعة لكثرة اهتمامه بالتراث ومد الجسور بينه وبين الحداثة.
أسئلة الوجود
لقد حملت السيرة الذاتية للدكتور احسان عباس الكثير من اسئلة الوجود والحياة، حيث كتب في غربته عن المكان وعن الانسان، وعن تلك الغربة الابدية التي لازمته في شبابه وكهولته وشيخوخته، كما كتب عن فلسطين والمنفى، وعن توحده مع العلم داخل اسوار الجامعات وعن ذكرياته في شوارع المدن ودروب الحياة المتعددة حيث لا مكان للفوز والظفر ونشوة الانتصار انما الظفر والنشوة والانتصار للعلم فقط، ولا مكان للراحة والهدوء وصفاء الروح الا داخل الكتب التي تنقل الروح القارئة الى موطن الطمأنينة. لكن الكاتب الذي لم يتخلّف عن المكتبات، لم يقبض على أطراف الحقيقة، فكتب وأمعن في الكتابة، ومع ذلك لم يستطع ان يطرد من كثافة العتمة الا القليل.
وعلى الرغم من مبادئه الفكرية شديدة الانارة، الا ان هذه السيرة الذاتية تحمل تجارب انسانية متداخلة في طغيان زمن الطفولة وفي عمق زمن المعرفة الإنسانية حين يبدو ان ما هو يقين في زمن ما، يصبح سرابا خادعا في زمن آخر.
لكن احسان عباس بوعيه الفكري بمحدودية المعرفة رغم وسعها، جعلته يدرك ان حدائق الكتب التي تجول فيها، أبعدته عنها في سيرته الذاتية واكتفى بحوار الروح.
ان المعرفة التي تملكته والتي غرق في كل مكتباتها، قد جعلت من حقيقة الوجود جسرا يصل بين عدة عوالم، عالم الكتب وعالم الحقيقة وعالم المعرفة.
لقد رجع الأكاديمي الى الطفولة في سيرته، ليصور المكان ويطارد زمنا مليئا بالرموز ويصف تربية وطقوسا وعاداتا، استقرت في ضمير الطفل الابدي الى ما لا نهاية. وكان مهد الطفولة، قرية موزعة على التعب والخوف والراحة، والقروي فيها منتشر بين الحقول والحسابات الفقيرة واعتناق الاساطير والمعتقدات الغليظة القاسية. ورغم هذا لم تكن خشونة العيش ولا رموز الخوف لتجعل الرجل القادم يبتعد عن ذكريات الطفولة انما ليكون حافظا امينا لها من التلاشي والضياع.
لقد استمر القلق يتجدد داخل الأكاديمي الذي اعتلى مدارج المعرفة، قصدها بهدف البحث عن العلم واليقين، ليعيد تدقيق الاسئلة وظلال الاجابات، واستمر ذاهبا بعيدا في رحلة العمر وفي لهيب التجربة ليغرق في كتب المعرفة الابدية، وليكتشف ان ما أُجيب عليه من اسئلة لم يلبّ قلق روحه، رغم قناديل المعرفة التي انتصرت على الخوف الذي كان يحتضن رموز الطفولة واسئلة الحياة المتجددة واستمرار المنفى الفلسطيني.
ان السيرة في “غربة الراعي”، هي ابحار في أوجه الحياة المختلفة والمتلاشية، وحوار مع اليقين والمجهول لكاتب وأكاديمي من اعلام الثقافة العربية المعاصرة، الذي ترك أفكاره لأجيال قادمة، وهي سيرة الروح الباحثة عن الحقيقة الخالصة، انها سيرة نبيلة في عذابها، سار فيها الكاتب الى التواضع الجميل الذي صقلته الثقافه والحكمة، حيث نشر كل افكاره بعيدا لينتصر على الزمن المتداعي وليرحل دون وزر الاحمال الى العالم الأخر. ولعل تلك السيرة لم تأت الا لتخبرنا عن غربة الانسان الشاملة في هذا الوجود. ان احسان عباس وادوارد سعيد وجبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني وغيرهم مازالوا يضيئون الكثير من العقول في الثقافة العربية.